للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهل فعلت حكومة الجزائر شيئًا من هذا؟ كلا، إنها تجتلب رجال الدين من أوساط الأمة، وتشترط فيهم شروطها لا شروط الدين، وتجريهم على طريقتها لا على طريقة الإسلام، وتقدم أطوعهم عنانًا، وأسرعهم استجابة على غيره، وتعتبر فيهم ما تعتبره في عون (البوليس)، من القدرة على أداء (السربيس) (١). ولو كانت تُنفق عليهم في التخريج، أو تجلبهم من مكة أو الأزهر، لما كانت لها شبهة صدق في دعوى المحافظة على الإسلام، ولما كان لنا عذر في الرضى والسكوت لأن الدين ليس دينها، ولا هي أهله. فكيف وهي تأخذهم (جاهزين) بلا تعب ولا معاناة، وتمتحنهم في اللياقة الحكومية، لا في الكفاية والاستحقاق الديني.

إنما يحافظ على الدين أهله، الذين أشربوا في قلوبهم حبه، واختلطت أرواحهم بروحه، وامتزجت عقولهم بعقائده، وطبعت أخلاقهم على مقاييسه، وارتاضت جوارحهم على عباداته، وتغلغل الإيمان به إلى مستقر اليقين من نفوسهم، وأصبحت شعائره جزءًا من حياتهم وصورة من أدبهم.

إن سرّ تسلط الحكومة الجزائرية على الإسلام بدءًا، وتمسكها به استمرارًا ليس من حيث إنه دين يجب أن تحافظ عليه وعلى معابده وشعائره، ولكن ذلك لغاية أخرى غير المحافظة وهي أنها تعد ذلك جزءًا من العمل الاستعماري الذي يتسلط على الأبدان، ثم يعد التسلط على الأديان تكميلًا لا يتم المعنى بدونه، فلما استعبدت أبدان المسلمين مدت يدها إلى دينهم، وأبت عليهم أن يكونوا أحرارًا فيه، ليتم لها التسلط على الجانبين الروحي والمادي، ولم تستطع التسلط على الدين الموسوي لأن أهله ملوك لا مماليك، ولا نذكر الدين المسيحي لأنه دين الحكومة الرسمي، بل دين فرنسا (بنت الكنيسة البكر). وعلى هذه الحقيقة فوضعية رجال الدين الإسلامي عند هذه الحكومة ليست وضعية رجال الدين، وإنما هي وضعية الجزء المكمل للجهاز الحكومي كالجند والبوليس، فالإمام والضابط والمفتي والكوميسير (٢)، و (البراح) (٣) والمؤذن والبواب والحزاب، كل أولئك سواء في نظر الحكومة وفي اعتبارها، وفي نظر أنفسهم بعد أن راضتهم على ذلك، وكل أولئك موظف عندها، مفروض عليه السمع والطاعة في تأدية أعماله، وكل أولئك تجري عليه التحريات البوليسية قبل تعيينه، ويمتاز الموظف الديني بقابلية التسخير لكل عمل ... وبحرمانه من ثمرات التقاعد ... وبأنه ذنب لكل ذي سلطة حكومية كيفما كان مقامه، لأنه ليس له مرجع ديني معين يرجع إليه، ولا رئيس مخصوص يكون مسؤولًا لديه، فأصبح المسكين مرؤوسًا لجماعة من البوليس، إلى شيخ المدينة، إلى المتصرف، إلى قاضي الصلح، إلى أصغر كاتب في إدارة.


١) السربيس: كلمة فرنسية معناها: الخِدمة.
٢) الكوميسير: كلمة فرنسية معناها: محافظ الشرطة.
٣) البرّاح: المُنادي في الأسواق.

<<  <  ج: ص:  >  >>