للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدين، تنشئهم على الشروط (الوظيفية)، وتروضهم على الأساليب الحكومية، حتى ينسوا أنفسهم، وعلاقتهم بالدين وصلتهم بالأمة، وتمتهنهم في مهن أخرى غير الدين، حتى يعتقدوا أنهم يُؤدون عملًا للحكومة ورجالها لا لله ودينه، وأنهم يُصلون الركعة لمائة الفرنك لا للواجب الديني، وأنهم يقرأون الحزب (للبايليك) لا للتعبد بالتلاوة.

خابت الحكومة في الأولى والثانية خيبة ذريعة، أما في الثالثة فقد نجحت بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة والمفتين، والخطباء والمؤذنين، والقومة والحزابين (١)، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين ... كوّرتهم وصورتهم، ونقحتهم، و "حوّرتهم" (٢)، وعلى المنوال الحكومي دورتهم، حتى أصبحوا جزءًا أصيلًا من الأدوات الحكومية، لا يفرق بينهم وبين سائر الموظفين الحكوميين فارق حتى في التبديل والنقل من بلدة إلى بلدة، فإن حكمة النقل إنما تظهر في الموظف العسكري أو الإداري، أما رجل الدين فأية حكمة في نقله؟ ... لولا اعتباره موظفًا حكوميًّا يُنقل لمعانٍ إدارية، وحكم حكومية ... أما إن كان نقله لنقص أو تقصير في الواجب الديني فإن الدين يعزله ولا ينقله ...

هذا أكبر دليل، وأنهض حجة على أن هذه الوظائف فارقت الدين، والتحقت بالحكومة ...

ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب ... باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا- برغم اختلاف الطبيعتين والمزاجين- إنعام الحكومة بنياشينها (٣) على أصحاب الوظائف الدينية ... أية علاقة أو أي نسب بين الوظيفة الدينية وبين النيشان؟ إن الأصل في هذه النياشين أنها تشريفات، أو مكافآت من الحكومات لرجالها العسكريين والإداريين، ومنشطات لهم على العمل الحكومي الذي يتفاضل فيه العاملون، فيحملهم الإنعام بها، أو التشوّف لها على المنافسة والاستباق، وتتجدّد فيهم الرغبة في أداء الواجب والإخلاص فيه، وبلوغ الحد الأقصى منه؛ وما هو حظ المفتي والإمام مثلًا من هذه المعاني؟ وما هو التفاوت بين إمام وإمام، حتى يستحقّ أحدهما هذا الوسام؟ وما هو العمل الذي يؤذيه الإمام إلى الحكومة حتى يظفر منها بهذا الإنعام؟ وما هي "المسابقة" التي تعقدها بين رجال الدين حتى يتبيّن لها المصلّي من المجلّي؟ ...

وإن لهذه النياشين لأسماء ونسبًا إلى أعمال، فهل فيها أسماء دينية، أو نسب إلى أعمال دينية؟


١) الحزَّاب: موظّف مُكلَّف بقراءة الورد اليومي (الحزب) من القرآن الكريم في المسجد.
٢) حوَّرتْهُم: نحت من اسم قاضٍ يسمّى "ابن حُورَة"، كان مواليًا لفرنسا.
٣) نياشينها: جمع نيشان، وهو الوِسام.

<<  <  ج: ص:  >  >>