للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما أن للأديان السماوية في أصلها النقي أسبابًا واصلة إلى الله، وأن بينها أرحامًا متشابكة على الحق والخير، ونسبًا مرفوعة إلى الملإ الأعلى تتقاضاها التعاون والتناصر على الحق والخير، فذلك ما نعلمه قبل غيرنا، ونعمل به أكثر من غيرنا، لأن ذلك مما غرسه فينا الإسلام الذي كشف عن معاني الألوهية والنبوة والوحي، وأبان حكمة إنزال الكتب، وبيّن أن النسبة إلى الله هي الرابطة الوثقى بين عباده، إذا ارتبطوا بها سعدوا.

وأما أن الإسلام أقام الحجة على الأديان وأهلها بعدله وتسامحه وفضائله، وبذَّها بعقائده المبنية على توحيد الوجهة، وعباداته المثمرة لتزكية النفس، وأحكامه الكافلة للمصلحة، وبمسايرته للفطرة وصلاحيته لجميع الأزمنة والأمكنة، فذلك شيء يشهد به أعداؤه حين تتغلب عقولهم على أهوائهم.

ولكن هناك ديونًا من الإحسان والبر للإسلام على المسيحية، سجّلها التاريخ، وأقام عليها من الواقع شهودًا لا ينالها التجريح، فهل كافأته هذه المسيحية وأمها اليهودية إحسانًا بإحسان، وجميلًا بجميل، وعهدًا بعهد، ورعاية برعاية، وحرية بحرية؟ وهل شكرتا له تلك المنن التي طوّقها بها في التاريخ الطويل المتعاقب؟ ...

جاورت المسيحية الإسلام في العراق، وهو مستقر قوته، متمثلة في مذاهبها القديمة، مغلوبة على أمرها، ذليلة الجوار للمجوسية، فرعى لها نسبتها إلى عيسى وإنجيله، وأرخى لها في عنان الحرية والظهور، وعاملها معاملة الغالب الكريم، لم يمتهنها بتحفظ، ولم يشن حريتها بتدخل، ولم يشب معاملته لها بتدسس، وأهَّل أهلها للمناصب الجليلة، وأحلّهم المراتب النبيهة، وسوّغهم الهبات غير مكدّرة ولا ممنونة، وقاد إحساسهم بالإحسان، ولم يجرّهم- كما يفعل الاستعمار المسيحي- بالأرسان ...

وجاورته في مصر، جارة بيته، وجوهرة فتوحه، فلم ترَ جارًا أوفى ذمامًا، ولا أمنع جوارًا، ولا أرحم قوة، ولا أعف جوارح منه. ووجدت في فسطاط عمرو من ظلال الأمن، وأفياء الحرية ما لم تجده في قصور القياصرة من الرومان والبطالسة من يونان، ثم تغيّر الزمن، ودالت الملوك والممالك، ولكن رحمة الإسلام بالمسيحية لم تتغيّر لأن وصايا نبي الإسلام بأهل ذمته لم تتغير، ولأن من طبيعة الإسلام رعي الذمام.

ثم غزا الأندلس ظافر الألوية، فغزا ظلم الملوك، وطغيان الطواغيت، وفساد المجتمع وتفاوت الطبقات، وأنانية الرؤساء، ولم يغزُ المسيحية ... وجاورته قرونًا كثيرة، فحمدت منه الجوار، وتبوّأت في ذمّته قرار الأمن والحرية، ولم تلق إلا الرفق واللين والرحمة، ومن آثار تلك الحرية اشتراك المسلم والمسيحي في اقتطاف ثمرات الحضارة الإسلامية من علم وأدب وفن وصناعة، ومن آثار ذلك الاشتراك كثير مما تنعم به أوروبا اليوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>