للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكومة أيضًا، فإذا أوغلت في ذلك ودخل الزمان بطوله في القضية- تراخت علائق هذه الطائفة بقدر ما اشتدت بالحكومة، وانحلت روابطها بالإسلام بقدر ما استوثقت مع الحكومة؛ والحاجة زمام، فليكن وكد الحكومة إلصاق الحاجة بهؤلاء الرهط حتى يسهل انقيادهم، وقد قال حكيمهم محمد عبده: أكبر أعوانك الحاجة إليك؛ ويومئذ يُصبحون في الفراغ من المعاني الإسلامية كمدافع المتحف، كل ما فيها من مظاهر الروعة: الإسم والصورة ...

هذا كلام الشارح الحاذق، نقلناه إلى هؤلاء باصطلاحات الفقهاء، لنقربه إلى أذهانهم - إن أبقت لهم هذه التربية أذهانًا يدركون بها هذه الحقائق- وليعلموا أنهم على هذا الغرار طُبعوا من حيث لا يشعرون، وأنهم إلى هذه الغاية يُساقون وهم ينظرون، وأن الحكومة وجدت فيهم الآلة القابلة، فعرضتهم سوأة مكشوفة للسابلة.

ولو أنهم- عافاهم الله- فهموا أن ما يتقاضونه من الحكومة هو غلة وقف أجدادهم، لما جعلوه علة لعقوق أجدادهم ... ولما باؤوا إليها بالمنة به، ولعلموا أي جليل أعطوا عن العوض، وأي خسيس أخذوا من العرض، فإن هذه الحكومة إنما تشتري بذلك منهم هممهم وذممهم، والخضوع لها، والخوف منها، والتصريف في مطالبها.

أما والله لو علموا ذلك كما نعلمه، وفهموا سره كما نفهمه، ثم كانوا- مع ذلك- من الغضب لكرامتهم وكرامة دينهم بالمنزلة التي يرضاها منهم الدين- إذن لاستعفوا من هذه الوظائف بالجملة لا بالتفصيل ... ولو أنهم فعلوا ذلك لانحلت المشكلة في لحظة، ولجردوا هذه الحكومة من سلاح طالما جردته في وجوه العاملين لخير هذا الدين؛ ولتحرر الإسلام من هذا الاستعباد الذي هم أحد أسبابه، بل هم أكبر أسبابه ... ولكنهم لا يفعلون، لموت الكرامة الدينية في نفوسهم، ولاستمرائهم هذا المطعم الخبيث المصدر، الذي لا يأكله إلّا الخاطئون، وما هو- والله- بالحلال ولا بالطيب؛ وقبح الله خبزة أبيع بها ديني، وأعقّ بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على قومي وتاريخي؛ ولكن ... أين من يعقل أو من يعي؟

...

رأينا بأعيننا كيف يتهافت رجال الدين على إدارة الحاكم في مدينة تلمسان، وكيف يتعبدون بزيارته بكرة وأصيلًا، وكيف يتسابقون إلى التحكك بأعتابه، والتردد على أبوابه، فلا هم يرجعون إلى همة تزع، ودين يردع، فيَرْعوُون، ولا الحاكم يرجع إلى حكمة فيجعل لعلاقته بهؤلاء وعلاقتهم به حدًّا يُبقي على شرف منصبهم الديني، ونحن نعرف أي الوظائف أدعى لملازمة أصحابها للحاكم الرئيس أو لكثرة ترددهم عليه؛ ولكننا لا ندري علاقة رجال الدين الإسلامي بالحاكم المسيحي، حتى يتردّدوا عليه كل هذا التردد، أليأخذوا عليه أحكام الصلاة؟ كلا، ولكن ذلك مصداق قول الشارح المتقدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>