للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشؤون الدينية لأهلها، وتوزيع اختصاصات الدنيا والدين بحيث لا تختلط إحداهما بالأخرى، وإننا لنجد بذورًا من ذلك في أساس تكوين الدولة الإسلامية، وإن اختلفت الحالتان في الدواعي والمرامي، ونلمح ذلك في تخصيص الإمامة برجال، والقضاء برجال، وإمارة الحج برجال، ونعتقد أنه لو طالت بعمر حياة وتمهد له ما يريد من إعداد الأمة وتربيتها- لخطا خطوات في توزيع الأعمال، وتقييد سلطة العمال، حتى ينتهي ذلك بطبيعة الحال إلى انفراد رجال الحكم بسد الثغور، وهو عمل عسكري، وتأمين السابلة وهو عمل اقتصادي، وإقامة الحدود، وهو عمل قضائي، وترك أمور الدين المحضة إلى علماء الدين المنقطعين له علمًا وعملًا، وليس معنى هذا سقوط التكاليف الدينية عن الطبقات الأخرى، ولا التساهل فيها، كما تفيده كلمة "حرية التدين" في هذا العصر، وإنما كلامنا في تسيير شؤون الدين، وهو موضوع الحديث، كذلك ليس من معناه أن لا تساس الأمة باسم الدين، كما هو مفهوم "حكومة تيوقراطية"، فالإسلام أضمن للعدل والمساواة، وأحفظ لمصالح البشر الخاصة والعامة من أن يتبرم به متبرم، أو يعد الحكم باسمه "تيوقراطيًّا".

وهذا صوم رمضان ... عبادة دينية محضة، وهي أبعد العبادات عن الماديات التي تغري بتدخل الطامعين في شؤونه، فهو أشبه بالفقير الذي ليس معه من المال ما يغري اللصوص بالاعتداء عليه، إذ ليس له من الأوقاف ما يقيمه كالصلاة والمساجد، ولا يفتقر في إقامته وأدائه إلى سفينة أو طائرة تنقل إليه، ولا إلى رخصة انتقال تثير غريزة التحكم، ومع ذلك كله فإن الحكومة الجزائرية عزّ عليها أن تفلته، وعز عليها أن لا تشارك فيه إلّا ببضع كيلوات من "الزلابية" ... فألحقته في العهد الأخير، بالحج والمساجد، كما ألحقت "فزّان" بمستعمراتها، وتلك شنشنة الاستعمار- واللاتيني منه على الخصوص- يعتبر الأوطان والأديان والأرواح والأبدان- وما هو لله وما هو للشيطان- شيئًا واحدًا يجب أن يخضع لجبروته ويدخل في سلطانه.

حَلَا لهذه الحكومة المسيحية اللائكية معًا، الجمهورية الديكتاتورية معًا، الجامعة بين الأضداد، الضاربة دون حرية الجزائر بالأسداد- أن تحارب الله في دينه الإسلام، فتنتهك حرماته، وتأكل تراثه أكلًا لمًّا، وتتخذ رجاله خَوَلًا لها، تستخدمهم في أغراضها بماله، وتنصب من نفسها مرجعًا لهم دون أهله، ثم تعمد إلى الحج فتبيحه لمن تشاء، وتحرمه على من تشاء، وتضع العواثير في طريقه، وتكوّن جمعية من أتباعها باسم "أحباس الحرمين"، بعد أن لم تبقِ منها أثرًا ولا عينًا، إمعانًا في السخرية بالإسلام وأهله، وتشارك المسلمين في أداء هذا الركن "بجهد المقل" من حاكم مسيحي وخليفة وقائد وكاتب وجاويش وجماعة من الجواسيس، يحصُون على الحجاج أنفاسهم، ويُلقون في أذهانهم أن البحر والسفينة، ومكة وشعابها كلها مستعمرات لهذه الحكومة.

<<  <  ج: ص:  >  >>