للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي العالم قضايا وخصومات، بين الشعوب والحكومات، وما كانت الشعوب في يوم من الأيام أقل من أن تخاصِم. وما كانت الحكومات أجل من أن تحاكَم، بل إن الشعوب في هذا الزمان هي مصدر السلطان، وهي التي تقيم الحكومات وتسقطها، وهي التي تبني العروش وتقوّضها؛ والقضاء في حال الاستقرار والسلم هو الميزان العادل بين الفرد والفرد، وبين الشعب والحكومة، فإن اختلّ مزاج أحدهما لجأت الحكومة إلى الجيش، ولجأ الشعب إلى الثورة، وانجحر القضاء في غرفة؛ ولكن وضعنا مع هذه الحكومة وضع شاذ غريب، ليس له نظير في العالم كله، فلا نحن منها، ولا نحن أجانبُ عنها ... لا نحن منها فنحاكمها إلى قضاء مشترك بيننا وبينها، لنا شطر الرأي في وضعه، ولنا شطر العمل في تنفيذ أحكامه، فإذا تحاكمنا إليه حكم بيننا بالسوية، وكانت يدنا فيه أكبر ضمان لحقنا؛ ولا نحن أجانب عنها فنحاكمها إذا ظلمتنا وهضمت حقنا إلى محكمة دولية مثل محكمة العدل، أو جمعية الأمم.

حقيقة إن وضعنا شاذ غريب إلى أقصى حدود الشذوذ والغرابة، وإن علاقتنا بهذه الحكومة لا يوجد لها نظير فيما بين الشعوب والحكومات، لا في عصور الظلام، ولا في عصور النور؛ فقد ألجأتنا بظلمها واعتدائها على مقدساتنا إلى حالة من الغضب لا اعتدال فيها، وألجأناها بمطالبتنا وإصرارنا إلى نوع من العناد لا عقل معه؛ وما قول العقلاء المنصفين في شعب يعد زهاءَ عشرة ملايين من أشرف العناصر البشرية، ويتحلى بخلال إنسانية قلّ أن توجد في أرقى الأمم، ويلتفت إلى تاريخ كله إشراق ونور، وإلى ماض كله مآثر ومحامد، ويرتبط في عقائده وآدابه بمئات الملايين من البشر يشاركون في سياسة العالم ومعارفه وعمرانه بأفكار وعقول وأيد لا تقصر عن شأو، ولا تقصِّر في إحسان، ويعتز بجيران من جنسه إن لا يكن كمالًا فيهم، لم يكن نقصًا منهم ... ثم لا يكون له- مع ذلك كله- شرك في الحكومة التي تحكمه، ولا رأي في القوانين التي تسيره، ولا ممثل في المجالس التي تدير وطنه ... وما قول أولئك العقلاء المنصفين في حكومة ... في حكومة ... جمهورية فيما تدعي، ديمقراطية فيما تزعم، تحكم هذا الشعب الذي وصفناه بقوانين لا رأي له فيها، ولا يد له في تنفيذها، وتغالط العالم فيه بنواب منه، لا حرية له في انتخابهم، وليس له منهم ولا لهم منه إلّا الاسم والزّي ... لكأن وضعيتنا صورة من أطوار بائدة، لحكومات وشعوب خالية، احتفظ بها الدهر لشقوتنا، لتكون حجته للعصور الآتية على زيغ هذه الحضارة وزيف شرائعها وكذب دعاويها، وأنها طلاءٌ ظاهري ليستر القبح والشين والعرّ، وما هو بساترها ...

...

ومجموع القضية الجزائرية بجميع أطرافها الدينية والسياسية والاقتصادية، كلها من هذا القبيل في الشذوذ والغرابة، لأن جميع القوانين التي تسيرها شرعت من طرف واحد،

<<  <  ج: ص:  >  >>