للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ميسور، إلا قضيتنا هذه فإن تعصب الشيطان وأعوانه فيها صيّر حلّها قريبًا من المستحيل، ولعل قضية "الزيت" بين الفرس والإنجليز تحلّ في ساعة أو ساعتين، ولعلّ قضية "الجلاء" بين مصر وانجلترا تفصل في يوم أو يومين، ولعلّ الصراع بين "الكتلتين" ينتهي في شهر أو شهرين؛ أما فصل الدين الإسلامي عن حكومة الجزائر فهو- بما يحيط به من مقاصد الحكومة، وما يكتنفه من ظنونها- بعيدُ التصوّر في الذهن، بعيدُ الوقوع في الحسّ، غير ممكن التحديد بسنة أو سنتين، فإذا جال التحديد في خاطر الحكومة جاوزتْ به عشرات السنين، إلى القرن والقرنين، أو إلى ما يقدّر الاستعمار لنفسه من العمر، فكأن هذه القضية- في نظره- من أسباب طول العمر، فامتدادها امتداد لعمره، وليس كل هذا منه لأن القضية في نفسها صعبة، فهي- لو خلص القصد- من أسهل القضايا؛ وليس كل ذلك لأن أحدَ الطرفين فيها ضعيف، فهذا قدر مشترك في كثير من القضايا العالمية، وليس كل ذلك لأننا أصررْنا على المطالبة بالفصل إصرارًا لا تسامحَ فيه، فإن إصرارنا على الحق نتيجة لإصرار الحكومة على الباطل، وليس كل هذا لأن حق الأمّة في القضية غير واضح ... بل كل ذلك ... لأن حق الأمّة فيها أوضح من الشمس ... ومن طبائع هذا الاستعمار، التي عرف بها وعرفتْ به، أنه يعمد إلى الحق فيصوّره باطلًا وإلى الوضوح فيلبسه مدارع من اللبس.

إن عقلية هذا الاستعمار الذي بلينا به- حين تتصل بالإسلام- عقلية "لاتينية" أولًا، صليبية ثانيًا، فهي تتخبّط بين لجّتين، لا تنحسرُ إحداهما حتى تجلّل الأخرى وترين، وتتغذّى من عنصرين، لا ينضب أحدهما حتى يثرّ الآخر ويفور، وهو بهذين الدافعين احتلّ الجزائر، ولهذين الباعثين عامل الإسلام فيها هذه المعاملة الشنيعة؛ ولعمرُ الحق إنهما لوَسْمان في الاستعمار الفرنسي للإسلام، متأصّلان فيه، مؤثران في أعماله، سائقان إلى جميع تصرفاته، يظهرهما لحاجة، أو يظهرُ أحدَهما لمصلحة؛ وقد يخفيهما لكيد، فتعرب عنهما هذه البوادر التي تبدر حينًا بعد حين من ساسته وقساوسته، فيصرّحون بأن الجزائر كانت لاتينيةً في القديم، ومفهومه الموافق أن تكون لاتينيةً في الحديث، وأنها كانت مسيحية في الغابرين، وفحواه أنها مسيحية في الآخرين، وعلى هذه القوالب صُبّت القوانين التي تساس بها الجزائر، وبهذه الروح نفذت، ولهذه الغاية يعمل العاملون من رجال الاستعمار في أيّ مظهر ظهروا، وبأيّ اسم تكلّموا، ولا عبرة بهذه الأغشية التي يموّهون بها أعمالهم من العلم والفن والمدنية والديمقراطية والإنسانية، فتلك ألوانٌ غير قارة ولا ثابتة، تخدع العينَ والأذن، ولكنها لا تخدع الحقيقة.

...

هذا هو مدد الاستعمار الفرنسي الأصيل، وهذا هو ميراثه غير المدّعى ولا الدخيل، وهو مثار هذه النزعات التي يجهد في إحيائها في الشمال الأفريقي كالنزعة البربرية، ويُعميه

<<  <  ج: ص:  >  >>