الهوى فيحاول أن يصلَ آخر الحبل الممدود بأوله وينسى أو يتناسى ثلاثة عشر قرنًا طبعت فيها العروبة والإسلام هذا الشمال بالطابع الذي لا يمحى، ووسمه بالسمة التي لا تزول ...
طرأتْ على فرنسا عدة مؤثّرات في القرون الأخيرة، من العلوم والفنون والصنائع، وانبثقتْ منها عدة مذاهب اجتماعية، واتسعتْ لعدة جنسيات وأديان، وكل واحدة من هذه المؤثّرات كافية لتحويل النظرة من أفق إلى أفق، ونقل الاتجاه من سبيل إلى سبيل، وتبديل العقلية من نزعة إلى نزعة، وقد فعلتْ هذه المؤثرات فعلها في العقلية الفرنسية فتغيّرتْ في كل شيء إلا في الاستعمار وما يتبعه من آثام، فإنها بقيت- كما كانت- "لاتينية"، وفي معاملة الإسلام فإنها بقيت- كما كانت- "صليبية"، ومن ناقضَنا في هذا جئناه بالدليل الذي لا ينقض، وهو حالة الإسلام في الجزائر، ومن رمانا بالمبالغة والتهويل رميناه بالحجّة المسكتة، وهي أن في الجزائر ثلاثةَ أديان يتمتع اثنان منها بالحرية الكاملة والاحترام الشامل، ويخص الإسلام- وحده- بهذه المعاملة الشاذّة التي هي في واقعها استعباد واضطهاد، وفي مغزاها احتقار وانتقام، وإن في هذا وحده لمقنعًا حتى للمكابرين.
...
لا يجد الباحث عناء في العثور على مصداق ما قلناه من تمكّن النزعة الصليبية في هؤلاء القوم، فهذه باريس منبع الثقافات والفنون والصنائع، التي استطاعت أن تجمع المتناقضات، وثوقف الإلحادَ بجنب المسيحية المتشدّدة، والإباحية العارية بجنب الحشمة المتزمتة، واللهو المعربد بجنب الوقار الساكن، تضم فيما تنضم عليه بيئة "صناعية" لصنع العقول، يديرها رجالُ دين، ويُدبّرها مستشرق شهير، وتقف جهودَها ونشاطها على تغذية النزعة البربرية في نفوس أبناء الجزائر والمغرب، من التلامذة الدارسين للعلم، أو العوام العاملين للقوت، وتغريهم بالتنكر للإسلام لأنه دينُ العرب، وبالتنصل من العربية لأنها جنسية طارئة غريبة، وتحاول إقناعهم بأن هذا الوطن بربري، وأن العقلية البربرية أقرب إلى اللاتينية منها إلى العربية، بسبب قرب الجوار، وصلة البحر المتوسط المتقارب الشاطئين، وبما تركه الاستعمار اللاتيني القديم فيها من آثار وتلاقيح، ولم يظلم الماريشالَ "ليوتي" من نسب إليه وضع الحجر الأول لبناء هذه المدرسة، وأن أول المتخرّجين فيها نابغة من أبناء المغرب، ولكن خلفاءَه في تلك النزعة وسعوا الدائرة، ولم يعودوا يقنعون بصيد المثقفين من أمثال ذلك النابغة، ونقلهم من صميم الإسلام إلى صميم المسيحية، بل أصبحوا يأنفون أن يكون للمسلم أو العربي مكانة ممتازة في المسيحية، كما يأنفون أن يكون لأحدهما مكانة ممتازة في العلم أو في السياسة أو في الجندية، وإنما يعملون اليوم للذبذبة والتشكيك حتى يتنكر العربي لعروبته، والمسلم لإسلامه، ولخلق جنسين يسهل عليهم ضربُ أحدهما بالآخر،