للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشك فيه، فهم يتساءلون، ثم تغلبهم العادة فيتساهلون، وأما الذين في قلوبهم مرض من الأئمة وأتباعهم، والمتشوفين إلى الوظائف من أشياعهم، فزادتهم مرضًا إلى مرضهم، وأصبحوا يخطبون بسبنا، والعاقل فيهم من يعرّض بذلك ولا يصرّح، وفزعوا إلى الفقه اللفظي، يقلّبون أوراقه ويستنجدونه ويستذرون منه بالكنف الذي لا يحمي، كأننا حين كتبنا تلك الكلمات كنا نجهل كلام الفقهاء في صفات الإمام وشرائط الإمامة وجوبًا وكمالًا، وكأننا كنّا غافلين عن أئمة صقلية والأندلس في فورات التغلّب، أو جاهلين بمعنى العبارة التي يردّدها المؤرّخون وهي "أن العدو أبقى لهم دينهم"، فإن معناها أنه أبقى لجماعة المسلمين التصرّف التام في دينهم، ومنه تولية الأئمة، وكأننا كنا بمنزلتهم في الجهل بأن الفقهاء إنما يذكرون الشروط الجزئية (الشخصية) وأما الكليات فتفهم من فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمله، ومن مقاصد الشريعة العامة، ومن الحكم المنطوية في تلك المقاصد، ومن تلك الكليات أن الإسلام شرطٌ أولي في المولي (بالكسر) وفي المولّى (بالفتح) وأن الأول يكون أعلى قدرًا وأرفع منزلة في الإسلام من الثاني، ذلك أن المولّي للإمام هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نائبه وهو الخليفة، أو نائب الخليفة وهو الأمير، أو نائب الأمير، وهم جماعة المسلمين مجتمعين، وهؤلاء كلهم أعلى منزلة في الإسلام من الإمام، وما كانوا كذلك إلا بحكم الإسلام، فهل هؤلاء الأئمة مع من ولّاهم بهذه المنزلة؟ وهل يرضى منهم الإسلام أن يكونوا بهذه المنزلة؟

إن الإسلام لا يرضى للإمام الذي نصبه "شفيعًا" للمصلّين أن ينقلب فيصبح "متشفّعًا" لنيل الإمامة بمن لا يدين بالإسلام، بل بمن يهين الإسلام.

على أن الشرائط التي يذكرها الفقهاء في الإمامِ كلها حجة على هؤلاء الأئمة بألفاظها ومعانيها وحقائقها ومراميها، وكلّها عناوين على معادن من قوّة النفس والروح والعقل، ورموز إلى مراتبَ عليا مما يتفاوت فيه الناس حتى تصحّ إمامة واحد منهم، ولا تصحّ إمامة الآخر.

فهم يشترطون الإسلام، وهم يعنون به نوعًا يناسب هذه المرتبة الشريفة، وهو بالضرورة أعلى مما يشترط في الشاهد أو المذكي أو راعي الغنم، وهم يشترطون الذكورة، وهم يعنون بها الرجولة، ومغزاها في لغة الدين وفي لغة التخاطب مغزًى بعيد، يرجع إلى كمال الإنسانية، وهم يشترطون الفحولة، وهي تكميل لصفة الرجولة وقوّة لها، وهم يشترطون الحرية، ومعناها الجامع يتألّف من مجموعة فضائل، من استقلال الفهم واستقلال العلم واستقلال الفكر واستقلال الإرادة، والخلو من أنواع الاسترقاق كلها، وإن منها لما هو شرّ من استرقاق البدن بدركات، وحسبك باسترقاق الروح نقصًا، وحسبك به قادحًا في الإيمان فضلًا عن الإمامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>