فهل توفّرتْ هذه الشروط الفقهية في هؤلاء الأئمة حتى تكون إمامتهم صحيحة؟ أم هم يحسبون أن دين الله ألفاظ مما يتعايش به الناس في البيع والشراء، أو مما يتحاسبون به من الأعداد المسرودة، تعد عشرةً فإذا هي عشرة؟
إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين؛ وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به؛ وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذ الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يبنى على الفاسد فهو فاسد.
إن الإسلام إنما شرع العبادات لتكون شواهدَ وبيّنات على العقائد الإيمانية، ثم جعل المسجد بيته ليكون مظهرًا لتلك الشهادة، فكل ما يقع فيه من صلاة واجتماع لها، ومجالس مدارسة وخطب، فهو إعلان لتلك الشهادة، وكل ما يتصل به من محراب ومنبر ومئذنة وإمام فهو مؤدّ لتلك الشهادة، فيجب أن تتظاهر هذه الأشياء كلها على الحق، وأن يكون بناؤها على أساس الحق، حتى تكون شهادتها حقًّا على عقائد الحق.
وإن كل ما يؤدّيه المسجد- في حكمته الإسلامية- هو إقامة لدولة القرآن، وتشييد لمدرسة القرآن، ورفع لمنارة القرآن، وكل مختلف إلى المسجد مقيم لحقّه وحق الله فيه، فهو "خرّيج" مدرسة القرآن، و"خرّيجو" هذه المدرسة هم الذين قوّموا عوج الكون، وعدلوا ميل الزمان، وكانوا في هذه الدنيا نورًا ورحمة.
وإن المسجد لا يؤدّي وظيفته، ولا يكون مدرسةً للقرآن، إلا إذا شاده أهل القرآن، وعمروه على مناهج القرآن، وذادوا عنه كل عادية، وما جعل القرآن المساجد لله إلا لتكون منبعًا لهدايته، وما وصف الذين يعمرون مساجد الله بأنهم لا يخشون إلا الله، إلا ليقيم الحجة على ضعفاء الإيمان ويعزلهم عن هذه المرتبة.
وصدق الله، وصدق رسوله الذي وصف القرآن بأنه "لا تنقضي عجائبه". فوالله لكأنَّ هذه الجملة:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} من هذه الآية، بهذا الأسلوب، المفيد للحصر بأبلغ صيغه، نزلت اليوم، وهّاجةً بأنوار الرسالة، مطلولةً بأنداء الوحي، لتكون حجّتنا القاطعة على هذا النمط من عمار المساجد، الذين يخشوْن المخلوق، ولا يخشوْن الله، ولو كانت شرائط الإمامة- حتى التي يذكرها الفقهاء- متوفرةً فيهم، لما أسخطوا الله بإرضاء الاستعمار ... وليكذبونا بموقف واحد أرضَوا به ربهم، وأسخطوا الحكومة ... إنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، ما دام أمر توليتهم في يديها.