عن جريمة الجهل، ومحو لوصمة الأميّة، وتنصّل من ضَعة الخمول، وأن الأب العالم الذي يرضى بذلك ويهون عليه، إنما يفعله معتقدًا أن ولده سيكون أعلمَ منه، وأوسع اطلاعًا، وأنفذ بصيرة على نسبة من زمنه، وتطورات زمنه؛ ولا يعتقد غير ذلك منهم إلا مغرور بنفسه، الجاهلُ أحسن إدراكًا للزمن منه؛ وأن الوطن حين يرضى بخلوّه من أبنائه أنهم ما أخلوْه إلا ليعمروه، وما قطعوه إلا ليصلوه، وما فارقوه شبانًا عزلًا إلا ليعودوا إليه كهولًا مسلّحين بقوة التفكير، تظاهرها قوة العلم، تظاهرها قوة العمل.
يا أبنائي، إذا عرفتم هذا، وعرفتم واجبَ أنفسكم التي تحمّلت الأتعاب، وتجرّعت مرارة الاغتراب، وذاقت طعم الحاجة والشدة، وواجبَ آبائكم الذين غذَوا وربَّوا، وأجابوا داعيَ العلوم فيكم ولبّوا، وواجب الوطن المجدب الذي جعلكم روّاده إلى القطر، وأرسلكم وانتظر، ورجا من إيابكم الحيا والحياة؛ إذا عرفتم ذلك كله، فماذا أعددتم لهذه الواجبات؟
إنكم لا تضطلعون بهذه الواجبات إلا إذا انقطعتم لطلب العلم، وتبتلتم إليه تبتيلًا، وأنفقتم الدقائق والساعات في تحصيله، وعكفتم على أخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب، واستثرتم كنوزَه بالبحث والمطالعة، وكثرة المناظرة والمراجعة، ووصلتم في طلبه سوادَ الليل ببياض النهار.
إن أسلافكم كانوا يعدّون الرحلة في سبيل العلم من شروط الكمال فيه، بل كانوا، في دولة الرواية، يعدّون الرحلة للقاء الرجال من شروط الوجوب؛ فكانوا يقطعون البراري والصحارى والقفار، ويلقون في سبيله المعاطب والأخطار، وكانوا يجوعون في سبيله ويعرون، ويظمأون ويضحون، لا يتشكّون الفاقة والنصَب، ولا يعدّون الراحة إلا التعب، ولكنهم لا يضيّعون أوقاتهم- إذا وصلوا إلى أمصار العلم ولقوا رجاله- في مثل ما تضيّعون فيه أوقاتكم من إسفاف ولغو، بل كانوا يحاسبون أنفسهم على الدقيقة أن تضيع إلا في استفادة وتحصيل.
فتعالوا نقارن سيرتكم بسيرتهم، وتحصيلكم، ثم نتحاسب على النتيجة!
كانوا يقيّدون وأنتم لا تقيّدون، وكانوا ينسخون الأصولَ بأيديهم ويضبطونها بالعرض والمقابلة حرفًا حرفًا وكلمة كلمة؛ وأنتم أراحتكم المطابع، ويسّرت لكم الكتب؛ ورُبّ تيسير جلب التعسير؛ فإن هذا التيسير رمى العقول بالكسل، والأيدي بالشلل، حتى لا تجريَ في إصلاح الأغلاط المتفشية في تلك الكتب.
وكانوا يرجعون بالرواية الواسعة والمحفوظ الغزير، وينقلون الجديد من العلم، والطريف من الآراء والمفيد من الكتب، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فانظروا بماذا ترجعون أنتم اليوم؟