للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لاحظ تعليمًا حرًّا في أمّة حرّة، ذات حقوق مقرّرة، وقوانين محترمة، وحرية للفرد والجماعة مكفولة. فإذا وسّع فذلك ما تقتضيه الحرية، وإذا ضيّق فلأن التعليم الحرّ في نظره يعدّ افتياتًا على الحكومة التي تكفّلت بالتعليم قبل الخبز والماء؛ والأمّة الفرنسية لا تحتاج إلى هذا النوع الذي نسمّيه التعليم الحرّ، أو التعليم الشعبي، لا سيّما في قسمه الابتدائي؛ لأن التعليم عندها إجباري إلزامي للذكور والإناث، وتقوم به الحكومة مجانًا، فما حاجتها إلى جمعية أو مكتب للتعليم الابتدائي؟ ولم يبقَ خارجًا عن دائرة الإلزام والوجوب إلا التعليم الديني، والتعليم الثانوي والعالي؛ والنوعان الأخيران لا يتناولهما قانون، لأن طلابهما كبار وأحرار؛ والنوع الأول تمارسه الهيئات الدينية أو الكنائسية. وهو الذي يمكن أن يمسّه القانون اللائكي بالتضييق، ولكننا نرى الحكومات هنا وفي فرنسا تعطف عليه، وتعينه أدبيًّا بالتسهيل والتيسير، وماديًّا بالمال والهبات العقارية، وأنف اللائكية راغم. أما إن جاوز هذا التعليم البحر للتبشير والتنصير، فالحكومة الجزائرية تصبح له هي المولى وهي النصير.

أما نحن فإن حالتنا تناقض حالة الأمّة الفرنسية مناقضةً تامة في جميع تلك الخصائص التي لاحظها مشرّع تلك القوانين وبنى عليها أحكامه؛ ديننا مخالف لدينها، تعلّمًا وعلمًا وعملًا، ولساننا مخالف للسانها، وضعًا ونطقًا وكتابة، وطبيعتنا العامة مخالفة لطبيعتها، وأوضاعنا مباينة لأوضاعها، وليست لنا حقوق مقرّرة، ولا نساس بقوانين قارّة، وليست لنا حرية في الحياة مكفولة، ولا تعليم إلزامي. وللمتحكمين فينا قصد مصمّم في القضاء على ديننا ولغتنا، وفي بقائنا على الجهل والأميّة، وفي حرماننا من جميع أنواع العلم الذي مفتاحه التعليم، بدليل أن الحكومة الاستعمارية لم تشأ- ولا أقول لم تستطع- أن تعلم منا في قرن وخمس قرن تعليمًا ابتدائيًّا أبتر إلا أقل من العشر ممن هم في سن التعليم، ولم تشأ أن تخلط أبناءها بأبنائنا فيه، لتقيم الدليل الواضح الفاضح على أن تعليمها لأبنائنا تعليم ناقص.

إذا كانت تلك حالتهم، وهذه حالتنا، وهذه مسافة التباين بيننا وبينهم، فكيف يصحّ عند العقلاء أن يجري علينا في التعليم الحرّ قانون واحد، وهو عندهم نافلة، وهو عندنا من أوكد الفروض؟ وكيف يراد منا أن نذعن لذلك القانون الذي لم نخطر- بوضعيتنا الشاذة- على بال شارعه؟ وكيف تلزمنا هذه الحكومة الاستعمارية بأن نبني أمرًا على غير مضارعه؟ وبأية وسيلة نتوسل إلى تعليم أبنائنا دينهم الحافظ لأخلاقهم، ولغتهم الحافظة لدينهم؟ إذا لم نعتمد على جهودنا الخاصة، وعلى ما هدانا إليه العصر من نظم وجمعيات.

وافرضْ أن رجلًا فرنسيًّا فتح مكتبًا حرًّا للتعليم الابتدائي، فهل تظن أن الحكومة تعارض أو تعاكس أو تعطّل، أو تعامله بأقل من القليل مما تعاملنا به؟ تقول الحكومة- هنا- إن الفرنسي مهذّب لا يدوس القانون، ومنها طلب الرخصة، ولا يأنف منها كما تأنفون. ونقول نحن هنا: لا لا. ولكن الفرنسي حرّ عزيز لا يستطيع (كوميسير) أن ينهره، ولا بوليس أن

<<  <  ج: ص:  >  >>