يقهره، ولا حاكم أن يحتقره، ولا هم جميعًا أن يماطلوه أو يعطلوه. فإذا طلب الرخصة صباحًا فإنه يعطاها مساءً، أما المسلم فإنه يقدّم طلب الرخصة إلى أصغر مكلّف فيدخل به في بحر من الإجراءات لا ساحل له، حتى يفرغ جيبه، وتحفى قدماه، ويكل ذهنه، زيادة على السخرية والاحتقار. فإذا قدّر لذلك الطلب أن يخرج من مكتب الصغير إلى مكتب الكبير، تجدّدت الإجراءات، وتعدّدت التحرّيات، وكثرت المراجعات، وانفتح للصغير باب الاعتذار، واتسع للطالب أفق الانتظار، حتى يمل وييأس؛ والمحظوظ هو الذي يحصل على الرخصة في سنة؛ وما المحظوظ إلا من قامت الشواهد على إخلاصه للحكومة، وأثبتَ الفحص الإداري براءته من العيوب صغيرها وكبيرها؛ وأكبرها أن فيه وسمًا من جمعية العلماء ونسبة إليها، أو أنه يحمل فكرتها الإصلاحية؛ وأصغرها أن يكون اشترك في جمعية علمية، أو حضر في حفل أدبي، أو استمع لنشيد قومي أو انتسب إلى حركة سياسية، فكل هذا مما يسجّل في الصحائف، وكل هذا مما يوجب لصاحبه الحرمان من رخصة التعليم، أضف إلى ذلك أن كل طالب للرخصة تصك أذنيه، من أول موظف مكلف، هذه الجملة:"احذر أن تفتح المدرسة قبل أن تأتيك الرخصة"، وهو يعلم أنها لا تأتي؛ فقدر- أنت- أن هذا الطالب المسكين إنما يفتح المكتب ليتعيش بأجرة تعليم القرآن، أو ليقوت عياله بأجرة تعليم القواعد البسيطة من العلم، فهل يعامله الجوع والحاجة هذه المعاملة البطيئة؛ وهل يعذره الجوع والحاجة إلى أن تتم الإجراءات؟
هذا هو ما يجري في الجزائر في هذه المسألة البسيطة، وهذا قليل مما يقاسيه طالب الرخصة المسلم، زيادة عما لم نصوّره من إرهاق بالأسئلة، وحساب عسير عما تكنه الضمائر من الميول، وجرح للكرامة الإسلامية العربية، وازدراء للهيئة والشكل، وإلجاء إلى المواقف المهينة. وهذا ما جعلنا نمقتها ونسترذلها ونكفر بها، فما هي- والله- رخصة تطلب فينالها المجدود، ويحرمها المحدود، وإنما هي غضة يعسر ابتلاعها، وقصة يثقل سماعها، ورهصة لا تحتمل أوجاعها؛ وإن للحكومة فيها من وراء ذلك لسرًّا، وهو أنها تجعل منها أداة تصرف بها الطالبين. وليت المتاع بها طويل، ولكنه متاع قليل، بل هي أحط وأقل من رخصة "فتح مقهى" مثلًا؛ ولا تبقى نافذةً إلا بقدر ما يبقى صاحبها مغفولًا عنه أو مستقيمًا في نظر الحكومة؛ فإذا زاغ عن الصراط، أو قصر في الاشتراط، فنزعها منه أهون عليها من قصّ القلامة.