وقد تعاقب على الجزائر في هذه الحقبة سبعة ولاة مختلفي الميول السياسية، متنوعّي الحزبية، ولم يستطعْ واحد منهم أن يحلّ هذه المشكلة بوجه يرضي المسلمين، أو يبرقع - على الأقل- وجه الاستعمار البغيض في مسألة دينية كهذه. بل ما صدرت القرارات الخانقة إلا في عهد كثير من هؤلاء السبعة. ومن لم يضرّ منهم في السلب لم ينفع في الإيجاب. وكم ترك الأول للآخر.
كما تعاقب أربعة مديرين على إدارة الشؤون الأهلية، أو "الأنديجانية" بالتعبير الصحيح، فلم يستطع واحدٌ منهم فضّ المشكلة، لأن الطبيعة الاستعمارية واحدة في الجميع، بل كانوا بتلك الطبيعة يضعون في طريق حلّها العقاب، ويُمدّون نار الاستعمار فيها بالثقاب. وهذه الإدارة هي النافذة الوحيدة التي تشرف منها الحكومة على المسلمين الجزائريين، وهي المعمل المختص بحبك المكائد، وفتل الحبال، وهي المطبخ الذي تُطبخ فيه الآراء على حسب الشهوات، وهي "البورصة" التي كانت تباع فيها الضمائر وتشترى. وهذه الإدارة في جميع أدوارها كانت تجهز برجال استعماريين من الطراز الأول، وأول الشروط فيهم أن يمضوا درجات التدريب الإداري في الأحواز المختلطة (١)"الأنديجانية". وقد رأس هذه الإدارة رجل عالم قانوني وهو السيد (ميو) عميد كلية الحقوق في الجزائر، ولولا الاستعمار وتسخيره للعلماء كما ذكرنا في المقال السابق، لكان أقربَ الرؤساء الحكوميين إلينا، وأحسنهم فهمًا لقضيتنا، ولكن الاستعمار لا يعرف علمًا ولا قانونًا، لأنه لا دين له ولا ضمير، فلم يستطع الرجل أن يتغلّب بعلمه وقانونه على صبغته الإدارية، ولا على روحه الفرنسية، وما تقتضيانه من تقليد استعماري متّبع، ولا نحن سلّمنا في شعرة من مطالبنا، أو تساهلنا في قلامة ظفر منها.
فمرّت أيامه كأيام زملائه الآخرين ودخل وخرج وهو فرنسي في الحالتين، وقد بلوْنا هؤلاء الفرنسيين فوجدناهم يختلفون في المبادئ إلى حدّ التناقض، ولكنهم حين يصلون إلى الاستعمار، ودوْس الضعفاء، وسيادة فرنسا، يتغلب فيهم صوت الدم على صوت الضمير، واتفاق الروح على اختلاف المبادئ، وهذه هي الجرحة القادحة التي لا تنفع معها تزكية في علمائهم ومفكريهم وفلاسفتهم؛ وفي كل ما يدعون ويذيعون في العالم من جمهورية وديمقراطية.
وقد اتصل بنا الأستاذ (ميو) هذا لأول عهده بالإدارة، وطلب الاجتماع بنا لفضّ المسألة الدينية وقضية التعليم، فاستجبنا، وكان الاجتماع الأول حافلًا بالوعود
١) هي أقضية أو نواح غالب سكانها عرب مسلمون، يعيّن لها حكام فرنسيون يحكمونها بأحكام استثنائية، يحبس المرء من غير سب ويغرب بغير سب، ولا حق له حتى في السؤال بكلمة: لماذا.