للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمجاملات، وكان اجتماعًا غاب عنه الاستعمار بوجهه الجهم، وحفه العلم برعايته للحرمات؛ وكان مما صارحنا به أننا على حق في قضيتنا وأنه منتدب من الحكومة لحلّها معنا بالمفاوضات الهادئة؛ وأن الحكومة قلقة جدًّا من هذه القضية؛ وقال: إنه لشرف للعلم الذي يجمع بيننا أن يحل أحد رجاله مشكلةً عجز عن حلّها أقدرُ الإداريين وأقدمهم، وانتظرنا، فإذا وعود الرجل تثبيط، واذا صعوده تهبيط، وإذا علمه من ذلك النوع الموضوع "تحت الطلب". فلما استيأسنا منه كتبنا إليه رسالة المستيئس، وسننشرها في العدد الآتي نقلًا عن العدد الحادي والعشرين من السلسلة الأولى لجريدة «البصائر»، ليقرأ القرّاء منها صفحة من جهادنا في هذه القضية التي لا نسلّمها حتى نسلّم الأنفاس، لرب الناس.

...

لم نكن في يوم من الأيام مغترّين بهذه المفاوضات التي كانت تتجدّد كلما تجدّد مدير، أو أشار على الحكومة بها مشير، أو جاءها من الأحوال العامة نذير؛ ولا كنا بانين عليها شيئًا إيجابيًّا تطمئن إليه النفس، وتستقرّ عليه الحالة، وينطفئ به هذا الضرام المشبوب في الأمّة، تحرّقًا على دينها ولغتها، وسخطًا على الاستعمار الواقف لهما بالمرصاد؛ بل كنا جارين على سنتنا في التعليم، وتأسيس مدارسه وجمعياته، موفين بعهد الله في خدمة دينه ولغة كتابه.

لم نكن نغترّ بتلك المفاوضات لأننا نعرف قيمتها، ونعرف مقصد الحكومة منها، ونعرف نيّتها التي لا تتبدّل في شأن التعليم العربي؛ ونعلم أن مقصدنا منه ومقصدها فيه متباينان، وأن كلًّا منا متمسّك برأيه التابع لمصلحته، ورأينا في التعليم مبني على عقيدة دينية ومصلحة قومية اجتماعية، ورأي الحكومة مبني على أصول استعمارية، غايتها هدمُ الإسلام والعربية، فأنَّى نلتقي في نقطة؟ ما دمنا نرمي إلى غايتين مختلفتين، وإذا كان خصمك لا يتفق معك في مفهوم الخير والمصلحة والمنفعة، وفي مفهوم الشرّ والمضرّة والمفسدة، بل لا يتفق معك في معنى الحق والباطل، فمن المحال أن تلتقيا على نتيجة، أو تجتمعا على مفيد، أو تفترقا على طائل، ومن العبث أو من سخرية أحدكما بالآخر تضييع الوقت في أمثال هذه المفاوضات، أو تعليق الأعمال والآمال عليها.

إن المفاوضات لا تكون إلا لتجلية الجوانب الغامضة من القضية، أو تبيين النقط المجهولة، أو فهم المقاصد الخفية، أو حلّ المواضيع المشكلة؛ وشرط نجاحها حسنُ النيّة وطهارة القصد من الجانبين. وقضيتنا نيّرة الجوانب، معلومة المذاهب، مفهومة المقاصد، واضحة المعالم، بيّنة الحق؛ ولكن المفاوضات فيها لا تنجح ولن تنجح لفقدان شرط النجاح، وهو حسن النيّة وطهارة القصد في أحد الجانبين ...

<<  <  ج: ص:  >  >>