للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاخْشَي- يا أمّة- يومًا يعرض فيه هذا الطور من أطوارك على أخلافك، ويُمتحن هذا الساف (١) الأول من بنائك، بأيدي أبنائك؛ فيجدون النقص هنا، والعوج هناك، والتهافت هنالك، ثم ينظرون فيجدون الأساس قد وُضع على دِمنة ... ذلك هو الفضوح، وتلك هي سخنة العين.

إن التاريخ سيكتب عن يومك هذا أنه ميلاد نهضة، وفجر انقلاب، وبدء تجديد ستنتزع منه هذه الشهادة انتزاعًا لا خيرة فيه، لما في طبيعة يومك هذا من الغلوّ والإسراف، والإخلاء (٢) والإسفاف، ولما فيه من الدعاوى الدعية، والشهادات غير المرعية؛ فاحرصي على سدّ الخلل وتقويم العوج ما استطعت، وأكثر مما تستطيعين، حتى تكون الشهادة قريبة من الصدق.

إن عمل الأجداد للخير والنفع، وبناءهم الباقيات الصالحات للعلم، مفخرةٌ للأحفاد، وحفز لهممهم، وتقصير للمسافة عليهم، وتقليل من الجهد والنصَب، وغرس وتمهيد؛ فضعي- أيتها الأمّة- في أيدي أبنائك ما يفاخرون به، وابني لهم ما لا يحتاجون معه إلى الترميم.

إن برّ الآباء للأبناء أساسٌ لبرّ الأبناء للآباء فأقرضوا أبناءكم البرّ الحسن تجدوه مضاعفًا ويؤدّوه إليكم ومعه فائدته وريعه.

ولو أن آباءنا وأجدادنا الأدنين بنوا لنا المدارس لأراحونا من هذه المتاعب التي نلقاها في بناء المدارس، ولصرفنا هذه الجهود في ما بعد البناء من تثمير وتعمير؛ ولكنهم- عفا الله عنهم- عاشوا لأنفسهم في شبه غيبوبة عن زمنهم، يتعلّلون بالخيال، ويلوذون من الحرور بالظل الزائل، ولم يعيشوا لنا، ولا فكّروا فينا، ولا أقرضونا شيئًا يذكّرنا بهم، فماتوا غير مذكورين، ولا مشكورين، وتركونا نمشي بأجرد ضاح؛ ولولا بقية من مساجد القدماء في الأمصار لوجدنا آباءنا يصلّون في الشوارع والأسواق؛ إن أسلافنا الصالحين كانوا مسلّطين على هلكة أموالهم في المصالح العامة، وفي بناء المآثر للأعقاب، وكانوا كلهم بمقربة من قائلهم:

إذا حال حولٌ لم يكنْ في بيوتنا ... من المال إلا ذكره وفضائله

يلتقون معه في الذكر والفضائل؛ أما نحن فإن أموالنا تذهب في أعراس الإنسان، وأعراس الشيطان، وفي المآتم والخصومات، وفي المواخير والحانات، وفي فضول الحياة وقشورها، وفي خسائس اللذات والشهوات، ولو أن هذه الأمّة أوتيتْ رشدَها، وأنفقت جزءًا مما تنفقه


١) الساف هو السطر من البناء يضعه البنّاء حجرًا بجنب حجر ثم يملأ الفراغ بالطين أو الكلس وصغار الحجارة ثم ينتقل إلى ما فوقه وهو الساف الثاني.
٢) الاخلاء من الشاعر هو خلو شعره من المعاني المبتكرة، فإذا كان الشاعر كذلك قيل هو يخلي.

<<  <  ج: ص:  >  >>