للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تغالى خلفاءُ بني العباس في تشييد قصورهم، وعمروها بأسباب الترَف المادّي، ووسائل اللذات الجسمانية، وأسبغوا عليها كل ما يستهوي من جمال وفن، وتسامت همم الخلفاء إلى إظهار جلال الخلافة في البناء والتشييد، فما قصرَ في ذلك منهم أوّلٌ ولا أخير، وباهتْ بغداد بتلك القصور أمصارَ العالم كله، ولكنهم لم يهتدوا إلى البَنِيّة التي تخمل كل بناء، ولم ينفقوا في تشييد المدرسة بعض ما ينفقون في تشييد القصر من مال وعناية وذوق، إلى أن جاء أحد وزرائهم فسبق للمنقبة التي تغطّي المناقب، وشاد المدرسة النظامية، هنالك علمتْ بغداد أنّ كلّ ما حازَته من جمال كانت تنقصه نقطة الجمال، وأن كل ما وصلتْ إليه من عظمة كان ينقصه سر العظمة، وأن كل ما كتب عنها التاريخ، ودون وصفها الشعرُ خيالٌ أيدته هذه الحقيقة، وأن كلّ ما حوى "الجانبان" (١) بناءٌ تنقصه لبنة التمام.

كانت تلك القصور تزخر بالترف الذي يفضي إلى الرذيلة، وتؤوي في أكنافها أممًا من الجواري والغلمان والفجرة والغدرة، وتخفي في أقبائها الموت والظلم، وتحاك في أرْوقتها المكائدُ والحيل، وتهدر في ساحاتها الأعراض والدماء والفضائل، ويقرّب إليها ناسكوها قرابين المصانعة والنفاق.

أما مدرسة الوزير نظام الملك فقد أصبحتْ تزخر بطلاب العلوم، ويَسطَع في آفاقها من أئمة الإسلام نجوم، ويشع شعاعها فيجاوز النهر إلى خراسان، والبحر إلى الأندلس. ناهيك بابن الصباغ، وأبي حامد الغزالي، وأبي إسحاق الإسفرائيني.

...

تبارك الذي أسند البناء إلى نفسه، فأرشدنا بذلك إلى أنّ البناء من صفات الكمال، ودلنا على أنّ العظيم يبني العظيم، فقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ... تبارك الباني، وجل المبنى؛ فهذا الكون كله بناء وتركيب، ونظام وترتيب، وهذه الحياة كلها بناء تحسه الحواس، أو تعقله العقول، أرأيتَ عملَ الإنسان؟ إنه يتكامل حجرًا على حجر في البناء، وحرفًا بعد حرف في الكتابة، وكلمةً بعد كلمة في الحديث، وخيطًا على خيط في النسج، وخطوةً بعد خطوة في المشي؛ أرأيتَ عمله العقلي؟ إنه بناء فكرة على فكرة، وخاطرة على خاطرة، ونتيجة على مقدمات، أرأيتَ صنع الله في العوالم النامية من نبات وحيوان؟ إنها أطوار ودرجات، وأحوال متلاحقة،


١) جانبا بغداد هما العهد والرصافة.

<<  <  ج: ص:  >  >>