للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وطبقات مترامية إلى غايات، فلا يزاحم طوْرٌ طورًا، ولا تسبق غايةٌ وسيلتها؛ وكل ذلك بناءٌ بديع، وتركيبٌ معجز.

...

والأمم إنما تتفاضل وتتعالى بالبناء للخير والمنفعة والجمال والقوة، وما عدا هذه الأربعةَ فهو فضولُ عابث، لا يدخل في قصد العقلاء؛ وقد بنى أسلافنا لكل أولئك مجتمعةً ومفترقة، بنوا المساجد مظهرًا للخير، وشادوا المدارس مظهرًا للمنفعة، وأعلوا الحصون مظهرًا للقوّة، وسمَكوا القصور مظهرًا للجمال، فضموا أطراف الفخر، وجمعوا حواشي المجد، وحازوا آفاق الكمال، وقادوا الحياة بزمام، وأنشأوا بذلك كله للحضارة الإنسانية الشاملة نموذجًا من المدينة الفاضلة التي تخيلها حكماءُ اليونان، ولم يحققها ساسة يونان، وإنما حققها من ساد بالعدل، وقاد بالعقل؛ وأولئك آبائي!! ...

...

يُعذَر النائم، ولا يعذَر المستيقظ، والأمة نامت نومًا طويلًا ثقيلًا، فإذا عدَدْنا حركتنا القائمةَ اليومَ يقظةً فغير كثير عليها أن تبني بضع مئات من المدارس في بضع سنين، وغير كثير على المستيقظ أن يشتد عدْوًا للحاق بالسابقين، لأن اليقظة استئناف حياة، والحياة المستأنفة ليستْ وجودًا من عدم، وإنما هي تجديد لما انهدم؛ فلها تكاليفُ ثقيلة، ولها صُعدَاء مطالبها طويلة.

أفاقت الأمة الجزائرية إفاقةً غيرَ منتظمة، لأن الأحداث التي سببتْ لها النوم حقنتها بأنواع شتى من المخدارات، منها ما يفسد الدين، ومنها ما يشكك في اليقين، ومنها ما يزلزل العقل، ومنها ما يشل الإرادة، ومنها ما ينسي الماضي، ومنها ما يغير الاتجاه، ومنها ما يزيغ النظر إلى الخير والشر فيغيرُ مفهومهما، ومنها ما يفسد الفطرة، فلما أفاقت وجدت نفسها على مراحل من ماضيها، وعلى قاب قوسين من الاضمحلال والتلاشي؛ ووجدت من الدين عقائدَ لابسها الضلال في الفهم، والضلال في العمل، ومن المال أرزاقًا مقترةً يبض بها الكد المضني، والعرَق الصبيب، ومن الصناعة صنعةَ الجمل التي لا تفيء عليه إلا النقبَ في الظهر، والوجى في الخفّ، والتحجر في الثفنات، ومن العلم ألفاظًا بلا معان، وقشورًا بلا لباب؛ ومن التاريخ معالمَ طامسة، وظلمات دامسة، ومن قيم الحياة الحظ المغبون، والأجر الممنون، ومن المنازل الإنسانية منزلة المضيعة والهوان.

<<  <  ج: ص:  >  >>