للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبلًا وعرة، وصراطًا أرق من الشعرة، وإنّ عن أيماننا وعن شمائلنا عوائقَ من الدهر، ومعوّقين من البشر، وإنّ في طيّ الغيوب، من القدر المحجوب، بوائق في أكمامها لم تفتق، وإنْ أدري أقريب أم بعيد ما أوعد الله الظالمين، ولكنّني أدري أنّ العاقبة للمتقين، وأننا لا نغلب العوائق، ولا نتقي البوائق، إلا بإيماننا بالله، ثم بديننا، ثم بلغتنا، ثم بأنفسنا ثم بالحق الذي جعله الله ميزانًا للكون، وقيومًا على الكائنات، ترجع إليه صاغرة، وتقف عنده داخرة.

إن التقصير في الواجب يعدّ جريمة من جميع الناس، ولكنه في حقنا يضاعف مرتين، فيعدّ جريمتين، لأن المقصر من غيرنا لا يعدم جابرًا أو عاذرًا، فقد يغطي على تقصيره عمل قومه أو حكومته، وقد يقوم له بالعذر حاله الجاري على كمال مقنع؛ أما نحن فحالنا حال اليتيم الضائع الجائع، إذا لم يسعَ لنفسه مات. فإذا قصرنا في العمل لأنفسنا ولما ينفع أمتنا ويرفعها، فمن ذا يعمل لها؟ آلحكومة؟ وقد رأينا من معاملتها لنا أنها تمنع الماعون، وتداوي الحمى بالطاعون، وتبارز الإسلام بالمنكرات، وتجاهر العربية بالعدوان. فمن ضل منا مع هذا فقد ضل على علم، ومن هلك فإنما هلك عن بينة.

وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة لمرارة، تجتمع في العقبى مع الخسارة، فيكون منها حال من الحسرة يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج؛ وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا ونعيذكم بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها؛ وقد نهى ديننا الإسلام عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبيّن آثاره وعواقبه، وحضّ على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل والتواكل والإضاعة، فشرع لنا بذلك كله من شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس ما لم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية، وما أخذنا بذلك إلا ليأخذ بحُجَزِنا عن التهور في الكسل والبطالة، ويقينا تجرّع مرارة الندم، وحرارة الحسرة.

قصر آباؤنا وأجدادنا في واجبات اقتضاها زمانهم، وفرطوا في حقوق تقاضاها منهم مكانهم؛ بعد ما لاحت لهم النذر، وقامت عليهم الحجج، ودمغتهم البينات، فغالطوا في الحقائق، وكذبوا بالنذر، وموهوا بالزيف، وغشوا أنفسهم بالأماني والأحلام، وغشونا بالضلالات والأوهام؛ حتى مات من استيقظت شواعرُه منهم بحسرات الندم، ومات الغافلون منهم كما يموت الغفل من النعم، فلا حسرةُ أولئك أجدَت علينا شيئًا، ولا غفلة هؤلاء أفادتنا نقيرًا؛ وإنما أضاف تفريطهم المخجل واجباتهم إلى واجباتنا، فأصبحت حملًا ثقيلًا، هو هذا الذي ننوء به وينوء بنا، هو هذه الأعباء المركومة التي نحاول النهوض بها فيقيمنا الإيمان والأمل، وتُقعدُنا الكثرةُ والثقل، وإن من الظلم تكليف جيل بواجبات أجيال، وإن من الجور أن يحمل القرن الأخير أوزار القرون الماضية. ولو أنهم- سامحهم الله- قاموا بواجباتهم أو ببعضها، لخففوا عنا الكثير، وهوّنوا علينا العسير، كما خففنا نحن وهوّنا على الجيل الآتي؛ ولو أنهم غرسوا الشجرة، لقرّبوا منا جني الثمرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>