للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه هي حالتنا- يا أبنائي- نهدم ونرفع الأنقاض ونبني ونعمر في آن واحد، ونؤدّي فريضة الوقت ونقضي الفوائت على غيرنا في آن واحد، ثم نؤدّي الكفارات على ذنوب لم نجترحها ... كل ذلك مع محاربة من الجار، ومشاغبة من الشريك في الدار، ومع وشل من المال لا يتمّ به العمل، ومثبطات من سوء الحال يتضاءل معها- لولا الإيمان- الأمل، وإنها لحالة لا يثبت معها إلا المؤمنون الصابرون الصادقون المخلصون المحتسبون، المؤيَّدون بروح من الله، ونحن وأنتم كل ذلك، إن شاء الله.

...

ها أنتم هؤلاء تربعتم من مدارسكم عروش ممالك؛ رعاياها أبناء الأمة وأفلاذ أكبادها؛ تديرون نفوسهم على الدين وحقائقه، وألسنتهم على اللسان العربي ودقائقه، وتسكبون في آذانهم نغمات العربية، وفي أذهانهم سر العربية، وتدبرون أرواحهم بالفضيلة والخلق المتين، وتروضونهم على الاستعداد للحياة الشريفة بعد أن تجتثوا من نفوسهم بقايا آثار المنزل الجاهل، والأب الغافل، وتقودونهم بزمام التربية إلى مواقع العبر من تاريخهم، ومواطن القدوة الصالحة من سلفهم، ومنابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين، فقفوا عند هذه الحدود، واجعلوها مقدّمةً على البرنامج الآلي في العمل والاعتبار، وفي السبر والاختبار، واحرصوا كل الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم، واجعلوا الحقيقة الآتية نصب أعينكم، واجعلوها حاديكم في تربية هذا الجيل الصغير، وهاديكم في تكوينه، وهي: أن هذا الجيل الذي أنتم منه لم يؤتَ في خيبته في الحياة من نقص في العلم، وإنما خاب أكثر ما خاب من نقص في الأخلاق، فمنها كانت الخيبة، ومنها كان الإخفاق.

ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال، منطبقًا على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَة إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قويّ الإدراك للمعايب والكمالات، فإذا زينتم له الصدق، فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر، فكونوا من الصابرين، واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلًا في أرواحكم فهو- لا محالة- ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل؛ ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>