للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدوائها، فيعالج الفزع بالصبر، والعواصف بحسن التصريف لها، وإلحاحَ الأمواج بإلحاح العزيمة، فإذا هو ناجٍ سالم محرز لمهجته وسفينته.

...

ولكنّ هذا كله كلام لا يجلب المنام، ولا يغني عن الطعام، ولا يكسو العظام، ولا ينعل الأقدام، والحقيقة التي تجب مواجهتها كفاحًا، هي أن الأزمة خانقة، وأسعار الضروريات والحاجيات، كسعود الأقوياء، كل يوم في ارتفاع، ووجه المستقبل يطلّ من خلل الأيام كالحًا باسرًا ينذر بالسوأى وزيادة ... وأصوات العمّال الكادحين وأجراء المشاهرة والمياومة تصمّ الآذان بطلب الزيادة في الأجور، لأن الزيت- وهو الإدام- أصبح بقيمته شجًى في الحلوق، ولأن الثياب الساترة أصبحت بسبب الغلاء فاضحة، ولأن ورقة (الألْف) بورك فيها فأصبحتْ (كالشين) في حساب الجُمَّل (١). في (الجزم الصغير) عند (اليقاشين) (٢) ...

وهذه الطائفة المجاهدة الصابرة عندنا تتوقّع الموت، ولا ترفع الصوت، ولا مرجع لها - بعد الله- إلا جمعية العلماء التي حبّبتْ إليها التعليم، وزيّنته في قلوبها، ثم ساقتها إلى ميادينه، وجنّدتها في كتائبه، فإذا لم تبذلْ كل مجهود في تخفيف البلاء وتهوين الغلاء عليهم بالزيادة في المرتبات، فإن العاقبة تكون وخيمة، وإذا كنا لا نخشى أن يفرّوا من الزّحفْ، ثقة بهم، واعتمادًا على متانة دينهم، وصدق وطنيّتهم، وركونًا إلى شهامتهم واعتزازهم بمهنتهم، فإننا نخشى ما هو أسوأ عاقبةً من ذلك ... نخشى أن يعلموا أبناءنا بلا قلوب ولا عقول، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صلة القلوب بالقلوب، وتأثّر العقول بالعقول، واستقاء الأرواح من الأرواح؛ فإذا حصل ذلك جاء التعليم وفيه أثرُ الجوع والهزال، وعليه سيما الفقر والخصاصة، ويأتي هذا الجيل وعلى عقله من هذه الآثار ما على أجسام مواليد الحرب التي نشأتْ في فقر من المواد المغذية؛ وإذا كنتم تسمعون عن الأمم الحية أنها توفر أرزاقَ القضاة حتى لا تلجئهم مطالب الحياة إلى الرشوة، فكذلك يجب توفير أرزاق المعلّمين حتى لا تطمحَ نفوسهم إلى ... هجر التعليم.

أما والله لو استطعتُ لأعطيتُ المعلّم جمًّا، ثم لأوسعت العطاء ذمًّا، حتى تقوى فيه نزعة الكرامة وشرف العلم، والشعور بأن العلم كالعبادة، وكفاؤه الأجرُ من الله لا الأجرة من المخلوق، ولكن التمنّي تعلّق بخيال ...

...


١) الشين في ذلك الحساب يحسب بألف في اصطلاح المغاربة، ولكن ألفه كألف الفرق بعد واو الجماعة لا يساوي شيئًا.
٢) اليقّاشين: الذين يكتبون التّمائِم. و "اليَقْشَة": حِرْفَتُهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>