للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيها من عناصر البقاء ومؤهلات الخلود ما يرشحها للسيطرة والتمكّن، فقد احتوشتها الرطانات من كل جانب، ودخلتْ عليها دخائل العجمة واللكنة، فما نال كل ذلك منها نيلًا، وإن لغةً يصيبها أقلّ مما أصاب اللغة العربية من عقوق أبنائها، وحرب أعدائها، لحقيقة بالاندثار والفناء، ولكنها لغة العرب ...

والأمة الجزائرية من أوفى الشعوب العربية لهذه اللغة، وأكثرهم برًّا بها وتمجّدًا واعتزازًا، وأقواها شبهًا بها في الشدة على العوادي، والصبر على المكاره، والثبات على المقاومة، فالعربية غالبتْ في هذا الوطن عدة لغات، فلم تهن ولم تغلَب، والأمة الجزائرية ناهضَتْ عدة استعمارات روحية وماديّة، فلم تقهر ولم تخذل.

جاهدت هذه الأمة في سبيل لغتها جهادًا متواصلًا، كان من ثمرات النصر فيه هذه النهضة التعليمية التي ولدت الكتّاب والشعراء والخطباء والوعّاظ، وهي نهضة لم تعتمد الأمةُ فيها إلا على ما في نفسها من حيوية موروثة، ولم تلتمس فيها عونًا من أجنبيّ، بل لم تلقَ من الأجنبي إلا المعارضةَ الحادة والتثبيطَ القاتل؛ وكان من نتائج هذه النهضة إلحاح الأمة في المطالبة بمظهر سياسيِّ وطني للغتها، وهي أن تكون رسميةً في المدارس والدواوين والأقلام والأحكام، وأن يعترف لها بمكانتها في وطنها، وأن تمحَى عنها تلك الوصمة التي لم تسبّ بأشنعَ منها، وهي أنها "أجنبيةٌ في دارها"؛ وتكرّر الإلحاح في هذا، وارتفعت الأصوات به من كل جهة، ودَخلت الجرائد في المعمعة، واقتحمت القضية المجالسَ النيابية، وأذن النوّابُ بها على المنابر، ووقفت السياسة الاستعمارية عرضةً تصُدّ وتسدّ، وتطاول وتمدّ، وتتغابى وتتجاهل، وتطبخ الآراء- كعادتها- فلا تنضج رأيًا حتى يلوحَ لها خلافه، فتتركه فجًّا (١)، وتسلك غيره فجًّا؛ وكلّ تلك الآراء لا تبلغُ الأمةَ أمنيةً في لغتها، ولا ترمي إلى سداد ينفع الطرفين، إلى أن طلع علينا القرار المتعلّق بالتعليم العربي، الذي ختم به الوالي السابق أعماله وموبقاته في الجزائر، مؤرّخًا بيوم ٢٦ فيفري من هذه السنة، ومقدّمًا إلى المجلس الجزائري لينظر فيه ويضعه موضعَ التنفيذ.

ونظرنا في ذلك القرار، قبل أن ينظر فيه المجلس الجزائري، فإذا هو تحطيم لا تنظيم، كما يسمّي نفسه، ولو أن العربية كانت موجودةً بالمدارس العليا أو السفلى، لكان هذا القرار إعدامًا لها، فكيف وهي معدومة، ونقول: معدومة، ونكرّر القول، ولا يردّنا عنه أن "كتاب المفصّل" للزمخشري يدرس في الأقسام العليا، فإن ذلك بعضُ شواهدنا على أنها معدومة، من غير أن نضيفَ إلى هذا الكتاب، من يدرّس الكتاب ...

...


١) الفجّة: غير الناضجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>