للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليستريح إليه من ضاق ذرعًا بصاحبه ضيقًا معقولًا بدواعيه وأسبابه؛ ولما كان من بعض أسباب الطلاق ما يزول فتتجاوب النفسان من جديد، وتتراجعان الحنين إلى العشرة، شرع الإسلام تلك الملطفات التي ذكرنا بعضها، والتي تُبقي على أصل الصلة، وتحفظ "خط الرجعة".

جهل المسلمون حقائق دينهم، وجهلوا الحكم المنطوية تحت أحكامه، ومن أسباب ذلك جفاف الفقه عند الفقهاء لأخذهم إياه من كتب تُعلّم الأحكام ولا تُبيّن الحِكَم، فأثر ذلك في نفوس المتفقهة- وهم مرجعُ العامة في سياسة الإفتاء- آثارًا سيّئة، منها اعتبار تلك الأحكام تعبدية تُحفظ ألفاظها، ولا يتحرّك الفكر في التماس عللها، وطلب حكمها، وتعرف مقاصد الإسلام منها، وتصفّح وجوه المصلحة والمفسدة فيها.

أنا لم أسمع مدةَ دراستي للفقه في بعض تلك الكتب إلا كلمتين تثيران في النفس شيئًا من الإحساس الحي، وتنبّهان على خيال من الحكمة، وتبثّان في المشاعر بصيصًا من النور، إحداهما في باب النكاح، وهي قولهم: "النكاح مبنيٌّ على المكارمة"، والثانية في باب الطلاق، وهي تناقلهم لأثر "أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".

ولو أن فقهاءنا أخذوا الفقه من القرآن، ومن السنّة القولية والفعلية، ومن عمل السلف، أو من كتب العلماء المستقلّين المستدلين التي تقرن المسائل بأدلّتها، وتبيّن حكمة الشارع منها، لكان فقههم أكمل، وآثاره الحسنة في نفوسهم أظهر، ولكانت سلطتهم على المستفتين من العامة أمتن وأنفذ، ويدهم في تربيتهم وترويضهم على الاستقامة في الدين أعلى.

إن من يأخذ فقه الطلاق من آية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ومما بعدها من الآيات الآمرة بالوقوف عند حدود الله، الناهية عن تعديها، أو من آية: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}؛ أو من آية الحكمين ووعد الله بالتوفيق عند الإصلاح، وبالإغناء من واسع فضله عند التفرّق؛ أو من آية تخيير النبي أزواجه بين حالين: أحدهما التمتيع والسراح الجميل، مَن أخذَ فقه الطلاق من هذا المنبع العذب يعلم أيّ حكم مبثوثة تحت كل كلمة وكل جملة، ومن تفقه هذا الفقه ونشره في الناس يبعد جدًّا أن يتلاعب بتلك العقدة الإلهية التي عقدها الله بين الزوجين، فيضعها في موضعها المعروف بين المسلمين الآن.

هذا الجمود في الفقه والفقهاء، وذلك الخلاف الواصل بين طرفي الإباحة والحظر في المسألة الواحدة، هما اللذان سهّلا على المسلمين تعدّي حدود الله في الطلاق، وأفضيا بهم إلى هذه الفوضى الفاشية في البيوت، وإلى ارتفاع الثقة بين الأزواج والزوجات، وزاد الطين

<<  <  ج: ص:  >  >>