للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأنهم يرون فيه سلطانًا على سلطانهم، فيأخذون في توهينه، تارةً بالمصانعة المرائية والاستيلاف المخادع، وتارة بالمنابذة المكشوفة والتجنّي المعاند.

بايع معاوبة لابنه يزيد، وحمل الأمة على البيعة له بالترغيب والترهيب والمطاولة، فتمّ له ذلك؛ ولكنه كان يرى تلك البيعة كاللغو، ما لم يبايع العبادلةُ والحسن، لمكانتهم في العلم ومكانهم من الأمة، فعمد إلى الحيلة المستظهرة بالسيف، وكذلك فعل بنو مروان كلما تخلّف مثل سعيد بن المسيب عن البيعة، وكذلك فعل الخلفاء بعدهم في قضية البيعة أيام اشتداد سلطان العلماء وامتداده، حتى انتقل أمرها إلى طور آخر، وأصبحت في أيدي الأمراء والقوّاد والأجناد، وخرجتْ من يد الخلفاء والعلماء معًا، وكأنما كان ذلك عقوبة من الله للخلفاء على تعاليهم، وللعلماء على تنازلهم؛ وما وقع في البيعة وقع في غيرها من مصالح الأمة التي يتنازعها السلطانان.

بقي العلماء- مع ذلك- ظاهرين على الحق، يتولّون القيادة الحقيقية للأمة في غير ما يمسّ السلطان المادي الزائف، وكانوا أيقاظًا لكل حدث يحدث في الإسلام، وكانوا كلّما رأوا شبحَ بدعة خفّوا إلى إزالتها، وكلّما أحسّوا بضلالة ومنكر في الدين بادروا إلى تغييره بالفعل والقول: يُجسم لهم الاحتياط الصغائر فيعاملونها معاملة الكبائر؛ لا يتساهلون ولا يترخّصون، سدًّا لذرائع الفتنة والضلال، وكانوا يصدُرون في أعمالهم وأحكامهم عن الكتاب والسنة، فيصدرون عن الدليل الذي لا يضلّ، ويستندون إلى الحجة التي لا تدحض؛ وكانت الأمة ترجع إليهم، فترجع إلى وحدة متماسكة في الدين لا تتفرّق بها السبل، ولا تتشعّب الآراء؛ إلى أن فتنتهم المذاهب والخلافات الجدلية في أصول الدين وفروعه، وغطّت عليهم العصبيات المذهبية وجه الحق، فرأت منهم العامة غير ما كانت ترى من وحدة في الدين، عاصمة لوحدتها في الدنيا، ووحدة في العلم، عاصمة من تفرّقها في المصالح، وجرّوها إلى ما هم فيه من خلاف، فجرّتهم إلى ما هي فيه من فساد، وضعف لذلك سلطانهم عليها، فتوزّع أمرَها أمراء السوء الظالمون، وقادة السوء الجاهلون، واجتمع هؤلاء على قصد واحد وهو استغلال العامة فاصطلحوا.

لم يزلْ أمراءُ السوء يكيدون للعلماء حتى زحزحوهم- مع تطاول الزمن- عن مكان القيادة الروحية للأمة، وصرفوهم عنها، واستبدلوا بهم في استمالة الدهماء والعامة قادة لبسوا لبوس الدين ليغروا باسمه، وزهدوا في العلم إذ ليسوا من أهله، واستمدّوا قوّتهم من قوّة الأمراء، وتقارض الفريقان الشهادات بالتزكية والتراضي على المنافع والسكوت عن المنكر، هؤلاء يُضلونها، وهؤلاء يُذلونها، والإضلال في الدين وسيلة الإذلال في الدنيا؛ واستنامت الأمة على الهدهدة باسم الدين، وعلى الاغترار بما يزيّنون لها من الجهل، وما يقبحون لها من العلم، وما يقرّبون لها من طرق الجنّة، وهم في ذلك كلّه لا يقربونها إلى الله إلا بما

<<  <  ج: ص:  >  >>