للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبعدها عنه من بدع ومحدثات، والعلماء في هذه المرحلة غافلون يغطون في نومة أرْبتْ في الطول عن نومة أصحاب الكهف والرقيم، إلى أن فتحوا أعينهم على دين غير الدين، فشبه لهم، وأصبحوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأصبحوا يُزكون بعلمهم ذلك الجهل ويشهدون لأولئك القادة الجاهلين بالكمال والفضل، ولأولئك المبتدعين بما انتحلوه لأنفسهم من الولاية والكرامة، على المعنى الذي اخترعوه، لا على المعنى الذي جاء به الدين، ثم لم يكتفوا منهم بذلك حتى نحلوهم خصائص الألوهية. وشعر أولئك المبتدعة بتهوّر العلماء للمطامع الخسيسة، وسقوطهم على المطاعم الخبيثة، فقادوهم بزمامها، ثم شعروا بإقرارهم للمهانة والذل في نفوسهم، فأمعنوا في تحقيرهم وإغراء العامّة بهم، وأهان العلماء أنفسهم، فسهِل الهوان عليهم، فأصبحوا أذلّ من وتد بقاع، وصاروا عبيدًا وخولًا لهؤلاء المبتدعة الضُلَّال، يعيشون عالة عليهم، ويتساقطون على فتات موائدهم، ويتطوعون لهم حتى بأخس شهواتهم، ويشهدون لهم الزور على الله ودينه، ويحلون لهم من اللذائذ ما حرّم الله، وعلى هذه الحالة أدركنا عصرنا وأهلَ عصرنا. والشرب مشوب من قديم، ولكن آخر الدنّ دُرْدي.

ولقد رأيت بعينيّ معًا منذ سنين في طريق باب منارة من تونس، عالمًا يُعدّ في الطبقة الممتازة في علماء جامع الزيتونة، يهوي بالتقبيل على يد مخرف مبتدع جاهل متعاظم، لو حُكِّمتُ لحكمتُ بأن يكون عبدًا لذلك العالم، فرأيت يومئذٍ كيف تُعبد الأصنام، وعلمتُ كيف يكون العالم سبَّةً للعلم، وخطر ببالي قول المتنبّي:

وَقَدْ ضَلَّ قَوْمٌ بِأَصْنَامِهِمْ ... فَأَمَّا بِزِقِّ رِيَاحٍ فَلَا

وسقط ذلك العالم من حسابي، فما ذكرته بخير حيًّا، ولا ترحمتُ عليه ميتًا، ولا عددت موته- كموت العلماء- ثلمة في الإسلام! ...

ما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم، ولم يشكروا نعمة العلم، فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة، والإمامة والقيادة، وكان لخلوّ ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم؛ وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى مَن يُضلّ ولا يهدي من المشعوذين الدجّالين. فأضلّوها عن سواء السبيل، ومكّنوا فيها للداء الوبيل، وأعضلُ أنواعه الاستعمار، الذي وجد منهم مطايا ذُللًا سماحًا إلى غاياته الخبيثة في الإسلام والمسلمين؛ ولو كان العلماء هم القادة، وكانوا أحياء الضمائر والمشاعر، وكانوا- كما كانوا- شداد العزائم والإرادات، لوجد منهم الاستعمار في مشارق الإسلام ومغاربه حصونًا تصدّ، ومعاقل تردّ.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>