نقص فيه، ولا زيادة عليه، ولكنهم غفلوا عن أمرين: الأول أنهم مهما هبطوا بالمبلغ المحدود فإن في الفقراء من لا تصل قدرته إليه، فيصبح هذا التحديد إرهاقًا له وتعنيتًا، والثاني إن إصلاحًا مثل هذا لا يتم إلا إذا سبقه إصلاح في الأخلاق، وإصلاح في التربية، وتقوية للوازع الديني في النفوس، حتى يتغلّب على العوائد المستحكمة؛ ولو أنهم وضعوا حدًّا أعلى للأغنياء بعد إقناعهم بالتزامه، وتركوا للفقراء مجالًا واسعًا يبتدئ من الواحد وينتهي إلى العشرة مثلًا، ليقف كل فقير عند الدرجة التي تنتهي إليها قدرته، ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرًا وأحسن تأويلًا، ولكان أقرب إلى النظرة العمرية في إيقاف المغالاة عند حد.
وقد سُئلنا أن نكتب كلمة في هذا الموضوع تبيّن الحكم الشرعي على وجهه وتجلي الحكمة الشرعية على حقيقتها، فكتبنا هذه الكلمة في بيان الحكم العام، في الحالة العامة، ولم نوجّهها إلى جماعة خاصة، وإنما وجّهناها إلى الأمة كلها لأن مرضها واحد، ولأننا نراعي في أعمالنا- إن شاء الله- الفائدة العامة.
...
الصداق نحلة شرعية مشروطة في عقدة النكاح، يعجلها الزوج للزوجة أو يعمر بها ذمّته إلى أجل، ولا نقول ما يقوله الفقهاء المسارعون إلى التعليلات السطحية التي لا تتفق مع الحكمة: إن الصداق عوض عن البضع أو ثمن له، فإن هذا التعليل يدخل بهذه العلاقة الشريفة في باب البيع والشراء والمعاوضات المادية، وحاشا لهذه الصلة الجليلة التي هي سبب بقاء النوع الإنساني أن تكون كصلة الثوب بمشتريه، أو صلة المتاع بمقتنيه! بل إن معناها أعلى وأجلّ؛ إنها إكرام من الرجل القوام، للمرأة الضعيفة، ووصلة بين قلبيهما، وتوثيق لعرى المحبّة بينهما، وتأنيس يسبق العشرة المستأنفة، وبريد يحمل البشرى بالقرب؛ فإذا أدخلناها في باب الأثمان والقيم لم يبقَ إلا أن نسمّي الزوجة بائعة، والزوج مشتر، والخاطب سمسارًا؛ وإننا نتلمّح من الحكمة الإلهية العليا العامة في الجنس كله أن الصداق في الإسلام جبر لما نقص المرأة من الميراث، فمن عدل الله أن نقص لها في ناحية، وزادها في ناحية، وكرمها فأعفاها من تكاليف النفقة في أطوارها الثلاثة، بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهذه هي الحكمة التي ندمغ بها الطاعنين في الإسلام، الهازئين بأحكامه، المتعامين عن حِكَمه.
وليس للصداق في أصل الشريعة ونصوصها القطعية، وتطبيقاتها العملية، حد منصوص يوقف عنده لا في القلة ولا في الكثرة، وإنما هو موكول إلى أحوالهم في العسرة واليسرة، وطبقاتهم في الغنى والفقر، ولو كان له حد منصوص في القلة لما اختلف الأئمة في حدّه الأدنى، فقال مالك ثلاثة دراهم أو رُبع دينار، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم، وقال غيرهما