للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخرًا أن تكون التهمة "فتح مدرسة دينية أو قرآنية بدون رخصة". وحسب الاستعمار (ديمقراطية) أن يحاكم معلّمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام، في محكمة واحدة، وسجن واحد، وظرف واحد، وقد يكون يوم جمعة في الغالب، أليس هذا احترامًا للإسلام، ومن مصلحته كما يقول العاصمي؟ أليس هذه هي الديمقراطية؟ فما لكم تكذبون؟

ليبلغ الاستعمار ما هو بالغ في التضييق على ديننا ولغتنا والتصميم على هضم حقوقنا بهذه الوسائل التي منها العاصمي، فإن الإسلام حي خالد في داره، وإن العربية حية خالدة في جواره، لا يضيرهما تضييق، ولا يُبطئ سيرهما تعويق.

ولكن الذي يغيظ ويحنق هو هذه الدعوى العريضة الطويلة من الاستعمار في تثقيف الشعوب، وتعليم الأمم، وقطع دابر الأمية، وكيف تتفق هذه الدعوى منه مع أعماله التي تقاوم التعليم وتتنكّر له؟ وتنصر الأمية وتحميها، وتغذّي الجهل وتقوّيه، والتي تفضل عصا الشقيّ على قلم الكاتب، فتتساهل مع العصَى حتى تصير عصيًّا، وإن آذت وإن قتلت، وتحطم القلم لئلا يلد أقلامًا، وإن رشحت بالخير، وإن جرت بالنفع.

أليس معنى مقاومة التعليم نشر الأمية وتكاثر الأميين؛ لا يقتضي المنطق إلا هذا، ولا يفعل الاستعمار إلا هذا، لأن له مذهبًا في المحافظة على الأمية لئلا تزول، كمذهب العلماء في المحافظة على الحيات السامّة لئلا ينقطع نسلها.

كما أنّ الذي يُضحك ويبكي في آن واحد أن تجعل الحكومة من نظمها التي تطالبنا بها في مدارسنا، وتجازي المدارس على التقصير فيها بالتعطيل، استيفاء الشروط الصحية في المدرسة محافظة على صحة التلامذة، ومدارسنا- بحمد الله- مستكملة لهذه الشرائط، ولكن هؤلاء التلامذة حين تُغلق في وجوههم المدرسة فيهيمون في الشوارع فتفسد أخلاقهم، أو يأوون إلى مساكن رطبة فتعتلّ أبدانهم، لا تراهم الحكومة بعين الرحمة والعطف كما كانت ترعاهم وهم في المدرسة، كأن المحافظة على الصحة لا تكون حقًّا للطفل على الحكومة إلا إذا كان تلميذًا في مدرسة عربية، فإذا أغلقتها في وجهه فلا حق له في المحافظة على الصحة.

وما لهذه الحكومة لا تذكر المحافظة على الصحة إلا في سياق الحديث على مدارسنا، وأين هي من هذه الألوف المؤلفة التي تنام على الأرصفة في زمهرير الشتاء؟ أين هي من هذه العوالم من الأحياء الذين يسكنون القبور؟ أين هي من هذه المناظر المحزنة التي تقع عليها العين في قلب العاصمة وفي أرباضها؟ أوَادم يحفرون لسكناهم الغيران كالفيران، ينامون فيها هم وأطفالهم، فيفتك بهم السلّ ويغشاهم الموت من كل مكان، ولو أن طفلًا منهم خرج

<<  <  ج: ص:  >  >>