للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتصوّرْ- أنت- أن لشخص دارًا تعالم الناس أنها مملوكة له بوجه من وجوه الملك، ورأوه يتصرّف فيها، وينتفع بمرافقها، من غير شرك ولا نزاع، فهل يحسن منه- في غير المعارض المخصوصة- أن يُعلن للملإ، في غير مناسبة، أن الدار داره؟ وهل يجمل به أن يردّد في كل مجمع، هذه الجملة: "داري داري"؟ هل يفيد سامعيه شيئًا جديدًا يحسن السكوت عليه؟ وهل يحمل السامعون هذا التكرار منه محمل التوكيد اللفظي، وهم يعرفون أن التوكيد اللفظي يصحّ في كلام واحد متصل الجمل؛ أما هذه الجملة فهي تقع في كلام متعدد وفي أمكنة مختلفة، وفي أزمنة متباعدة.

الفهم الطبيعي المتبادر إلى أذهان جميع الناس، هو أن الرجل طرقه الشك في ملكه للدار، وطاف به شعورٌ بأنها مغصوبة، مثلًا ... فهو يغطّي بهذه الجملة المردّدة غصبًا للدار يوشك أن يفتضح أمره، أو يدفع بها خصمًا في الدار يوشك أن يرفع دعواه، وكأنه بهذه الجملة يهيّئ الجو للسماع الفاشي ... ليستشهد به يومًا ما ... ولكنه مهما كرّر الجملة وردّدها لم يزد على تنبيه الناس إلى أن في الدار حقيقة أخرى من وراء الجملة، وأن في دعوى الملكية قادحًا شرعيًّا تخفيه الجملة، وأن في هذا الترداد تحويمًا على تلك الحقيقة، لا تحويلًا للأذهان عنها، وأن هذا (الرجل) غرس الشك من حيث أراد اقتلاعه.

...

كبرت كلمة تخرج من أفواه هؤلاء المستعمرين الجبّارين، محادة لله ولقدرته وخلقه، ومضادة لدينه وسنّته، وطمسًا لحقائق التاريخ والآداب وأصول الأجناس، وعنادًا للطبيعة والأوضاع الجغرافية ونكرانًا للفوارق الملموسة من الدم الجاري، والإرث الساري، والتقاليد المتسلسلة.

لو أن البحر الأبيض جفّ والتأمت حافتاه، حتى أصبحت الجزائر ربضًا من أرباض مرسيليا، لما كان لهذه الكلمة موضع في العقل ما دامت تلك الفوارق قائمة، ولو أن الجزائريين كفروا بالواحد، وآمنوا بالثلاثة، لما كان لهذه الكلمة موقع في النفس ما دامت سنن الله في ملكه جارية، ولو أن حاكمًا حكم عليهم بقطع نسبهم من عدنان، وإلصاقه باللاتان، لم يكن حكمه إلا كحكم قاضي الجزائر في الصوم والإفطار، وحكم واليها في المولد النبوي، ما داموا يدينون بالإسلام، وينتمون إلى ذلك النسب السامي العريق في الأصالة والشرف، المحاط بالنبوّة والنور.

وهل الجزائر فرنسية؟ ... لا يا قوم لا. إن الله خلقها عربية مُسلمة، وستبقى عربية مسلمة إلى ما شاء الله، وإن الوراثة وسمتها بسمات خالدة، وصفات ثابتة، لا تفارقها حتى يفارق الشمس إشراقها.

<<  <  ج: ص:  >  >>