ملكها الرومان قرونا فلم تنقلب رومانية، وبادوا ولم تبد، وبقيت ولم يبق منهم إلا آثار الظلم، ومعالم الطغيان، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.
وملكها الأتراك- وهم أبناء ملّتها وربائب دينها- فلم تنقلب تركية، سادوا فيها بالانتصار لها، ثم حادوا بالاغترار للزمن، ولكنهم شادوا فيها أبنية الحق من بيوت الله، فتناستْ أمرَهم، وحفظت ذكراهم.
وصبغها التاريخ الطويل بأصباغ مما تنفضه أدواره، فكان أثبتها على الزعازع، وأبقاها على وجه الدهر صبغان زاهيان، هما: العروبة والإسلام.
إن القوة- إذا لم يزنها العقل- ضعف، وإن العلم- إذا لم تحطه الحكمة- جهل، وإن الملك- إذا لم يحمه العدل- زائل، وإن سلاح الحق من الحرير، يفلّ سلاح الباطل من الحديد، وإن "السيادة"، ليست حسنى ولا زيادة، وإنما هي استعباد، يبغضه العباد وربّ العباد، ويا ويح الأقوياء من غضب الله، وغضب المستضعفين من عباده.
...
الاستعمار مذهب يعتنقه الأقوياء، فما لهم يتفاوتون هذا التفاوت البعيد في مظاهره؛ يتفاوتون في الشرّ، يقارفه أحدهم سافرًا ليس عليه نقاب، وداعرًا ليس عليه مسحة من حياء؛ ويجترحه أحدهم معصية في صورة قربان، وفاتكًا في مسوح رهبان، كذلك يتفاوتون في العوراء، ينطق بها أحدهم كاسمها عوراء شوهاء، تجرح وتؤلم، وينطق بها الآخر ملفوفة في معارض النصح، أو محفوفة بمظاهر الإرشاد، أو مبلولة الحواشي بماء كذب من الحكمة، ونحن ... فما سمعنا قط أن الإنكليز مثلًا قالوا: إن الهند إنكليزية، فسبحان من قسّم الآداب، كما فرّق في الأنساب.
وهذه الكلمة الدعية المملولة، التي لم يؤيّدها الحق ببرهانه، ولم تضعها الحكمة في مكانها، كلمة مؤذنة باحتقارنا، جارحة لكرامتنا، طاعنة في شرفنا وديننا وتاريخنا، فهل يريد القوم منا- بعد أن باءوا بسوء الأدب- أن نبوء بالإغضاء عليها، والإقرار لها، والرضى بسبتها؟ هيهات هيهات لما يريدون. إننا- والله- لا نقبلها ولا نرضى بمهانتها، ولا نقرّها، ولا نقصر في دحضها بأدلة الحق، ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثة مرذولة ممجوجة مملولة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول: وهو أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية. كلمات قالها أوّلنا، ويقولها أخيرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا.