للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقارنات التي تقارب بين الأمم؛ لا جرم أن الاطّلاع على خصائص مجتمع تُدني منه، ولا تُبعد عنه، وتؤنس به ولا توحش منه؛ فإذا تهافتوا على السياسيين في اعتبار الأعلى والأدنى. ثم تهافتوا مع المستعمرين في مقياس الأقوى والأضعف، ثم تنزلوا مع المعمّرين إلى ميدان الآكل والمأكول، فأية قيمة لعلمهم؟ وأية ميزة تميّزهم من الناس؟

تعددت جرائم الاستعمار في هذه العصور الأخيرة، واشتدّ تكالبه على الأمم الضعيفة، فما سمعنا صيحة استنكار من هؤلاء المستشرقين على دولهم، أو على أممهم، وإن لهم عند دولهم، وبين أممهم المنزلة الرفيعة، والكلمة المسموعة، فعلمنا أن بعض أسباب ما ينعمون به من منزلة وسمعة هو سكوتهم عن تلك الجرائم، بل تزيينها، بل الإعانة عليها، وعلمنا أن الاستشراق أصبح (صنعة) لا علمًا، وأن الاستعمار ينشطها لمآرب له فيها؛ وعلمنا أنه- لأمر ما- كان ازدهار الاستشراق مقارنًا لازدهار الاستعمار.

ونحن نعلم- مع هذا- أن المستشرقين أصناف؛ فمنهم من يطلب العلم رغبة في العلم، وشوقًا إلى المعرفة، وآية هذا الصنف أن يُترجم عن لغات الشرق خير ما فيها لينقل إلى أمّته غذاءً نافعًا، ويضيف إلى معارفها بابًا من المعرفة جديدًا، وهذا الصنف هو موضعُ إجلالنا واحترامنا، ومنهم من يحيي أثرًا من آثار الشرقيين بنصّه ولغته، وهذا الصنف لم ينفع أمّته بعلمه، وإنما نفع نفسه عندنا بما نسبغه عليه من نعوت الإعجاب والتقدير بمبالغتنا الشرقية التي زادها الاستعمار الفرنسي في عقولنا تمكّنًا ورسوخًا؛ ولو أوتينا ما أوتي هذا الصنف من تيسّر الأسباب لفعلنا ما لم يفعلوا؛ ومنهم من يعمد إلى عورات الشرقيين فيفضحها لقومه، وإلى مواقع الضعف فيهم فيدل قومه عليها، وهذا الصنف هو الكثرة الكاثرة، وهو هدف انتقادنا، ومبعث سوء اعتقادنا.

لا نلوم من يخدم وطنه، وينفع أمّته، ولكننا نلوم من يستهزئ بنا فيغشّنا، ومن يتظاهر بنفعنا وهو يعمل لضرّنا، ومن يعلن في معاملتنا خلاف ما يبطن، فبعض الإنصاف- أيها القوم- ولا تلوموا من ضاق ذرعه بالاستعمار فغلب صبره، فباح بشكواه، فاعترضته أعمالكم، فلمسكم لمسة، مهما تكن غير خفيفة، فلا تقولوا إنها غير عفيفة؛ وقليل لمن مسستموه بنصب وعذاب، أن يمسّكم بنقد وعتاب، ولئن كتبنا عليكم الكلمات، فلطالما كتبتم عنّا الأسفار.

...

وجاءت كارثة فلسطين ... - وفلسطين ملتقى العواطف الروحية، ومجلى التقديس الاجتماعي، ووجود العرب فيها توازن طبيعي لحفظ تلك العواطف، وحقّهم فيها أوضح من

<<  <  ج: ص:  >  >>