للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويُخمد الاهتمام حتى في نفوس المتحمّسين، لأن أكثر من مجموع تلك الأرقام يوجد عند معمر واحد ...

ولكن تلك الأقلام المنطلقة في التفاصيل، المستمدّة من أهواء المعمّرين، تقف عند حد التهويل ومحاولة إقناع أولي السلطة بأن في الجزائر خطرًا حقيقيًا على الاستعمار، ولا تكلف نفسها رجوعًا إلى منطق، ولا تحليلًا لواقع، ولا موازنة بين الممكن وبين غير الممكن، ولا مقارنة لسوابق الأحداث بلواحقها ولا تتجاوز ذلك كله إلى النقطة الإنسانية، وهي حالة المعتقلين، وحقّهم في الدفاع، وحظّهم في المعاملة، مع أنها تعلم كما نعلم أن البوليس في الجزائر لا يسأل عما يفعل في معاملة الأهلي، وأنه كالمنوّم المغناطيسي في الاستهواء واستخراج كنائن الصدور، غير أن أحدهما يتسلّط على الأبدان، والآخر يتسلّط على الأرواح.

أما الاعتقال هذه المرة في شكله وكيفيته فقد كان أشبه بحالة الحية مع العصفور: اقتلاع، فابتلاع، أصحاب هذه الصحف الطائرة في هوجاء، السائرة على عوجاء، أعلمُ منّا بأحوال المعتقلين وما يلقون من تعنيت، ولكنهم بذلك راضون مغتبطون، أما الأمة فإنها لا تعلم من أحوال المعتقلين شيئًا، ولا تعلم من أمرهم بعد الاعتقال إلا ما تعلمه من أصحاب القبور: ضيق، وضغطة، وسؤال محرج، وانقطاع عن الأحياء، غير أن أصحاب القبور موكلون إلى العدل الإلهي الذي لا يظلم ولا يحابي، وأبناؤنا المعتقلون موكلون إلى الظلم البشري الذي يحقد وينتقم، ويسأل معنتًا، ويخاطب مبكتًا، ويجازي منتقمًا، ويعذّب متشفيًا، ويصل بذلك كله إلى الاعتراف (الكيماوي) على طريقة استخراج المعادن بالصهر والعصر، وإذا قسنا اللاحق على السابق فليس ثم إلا ذاك، وليس وراء الشر إلا شر منه، وليس وراء هذه (الباطنية) التي تجري عليها هذه الاعتقالات إلا العذاب، كما أنه ليس وراء الباطنية في الدين إلا الكفر.

ليت شعري، إذا لم تنصح الجرائد الحكومات بالرفق، وتحرّي الحق، والتسوية في المعاملة، ولم تنصح الحكومات الجرائد بالاعتدال، واجتناب التهيّج والاستفزاز، فكيف ينام الناس في أمان؟ وكيف يبيتون من الحياة على ثقة؟ وكيف يستقيم للمودة والإخاء بين الطوائف سبيل؟ وكيف يجد المتساكنون في الوطن الواحد الراحة والاطمئنان؟

ونحن ... فقد أصبحنا- لكثرة ما بلونا من سرائر السياسة الاستعمارية وعجمنا من أعوادها- نفقه كثيرًا من اتجاهاتها ومقاصدها، وكثيرًا من نتائج أعمالها المترتّبة على مقدّمات من نوعها، وكثيرًا من المرامي التي ترمي إليها تلك الأعمال، كما أننا أصبحنا موقنين لبعض النوبات التي تعتريها، لا يختلّ لنا فيها حساب، ولا ينخرم لنا ضابط. ويجمع

<<  <  ج: ص:  >  >>