ذلك قولك، إنه كلما طالب الشعب الجزائري بحقّه دبّرت له مكيدة ... ويكفينا لتصحيح هذه القاعدة أن نستعرض حالة هذه السياسة في الجزائر في ثلاثة عقود من السنين، من انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى الآن، ولا يكلفنا القارئ بضبط التواريخ ونصوص القرارات فإن ذلك واجب المؤرّخ، أما نحن فسائقون للعبرة، ومعتمدون على الخبرة.
نذكر أن أولى انتباهة من فرنسا للزوم تغيير سياستها مع مسلمي الجزائر كانت بعقب الحرب العالمية الأولى، وكانت في وزارة كليمانصو، وكأنها أرادت استئلاف الجزائريين- في الجملة- على ما أراقوا في سبيلها من دماء، وما قدموا في الدفاع عنها من تضحيات، فكان الممكن الميسور في نظرها- إذ ذاك- أن فسحت لهم قليلًا في المجالس البلدية والعَمَالية، وأن رخّصت لهم في حمل السلاح كالأوربيين، ولكن المعمرين المدللين رأوا تلك الهنات الهيّنات أمرًا عظيمًا، وجسّمتها لهم الأنانية حتى عدّوها مساواة لهم، واعتبروا ذلك التصرّف من حكومتهم فتحًا لباب يعسر سدّه، فأجمعوا أمرهم على نسخ ما شرعت، وفسخ ما عقدت فشكّلوا بمالهم ونفوذهم عصابات لصوص مسلّحة من الأهلين تعبث بالأمن وتفسد السابلة، وتطرق المنازل للنهب، واتّخذوا من تلك الأعمال حجة على أن الترخيص في حمل السلاح للجزائريين كوضعه في أيدي المجانين، ولم يزالوا على ذلك حتى استردّت الحكومة ما أعطت من ذلك الترخيص.
ثم ازداد الشعور العام يقظة وانتشارًا، وفتحت حركة الإصلاح الديني الذي قامت به جمعية العلماء مُغلقات الأفكار، وخرجت الحركة السياسية من صبغتها الفردية إلى ميدانها الاجتماعي، وتألّفت (وحدة النوّاب) وكان لها في مبدإ أمرها اتجاهٌ محمود، وللأمة حولها التفاتٌ مشهود، فهال ذلك المعمرين، وقادتهم هنا وأنصارهم هناك، فدبّروا مكيدة ٥ أوت سنة ١٩٣٤ بتسليط المسلمين على اليهود في مدينة قسنطينة، منبت الحركة ومقرّ أقطابها، وما كان بين المسلمين واليهود ما يدعو إلى ذلك ولا إلى أقلّ منه، ولكن يدَ الاستعمار صنّاع في تدبير المكائد، ولا شك عندنا في أن تلك المذبحة دُبّرت لقتل الحركة السياسية.
ولم تؤدّ تلك المكيدة إلى غاية الاستعمار المرجوّة، فاستفحلت بعدها الحركة، وارتفع صوت المطالبة بالحقوق جهيرًا، وتقارب السياسيون تقاربًا لم يعهد مثله، فتمخّضت عن "المؤتمر الإسلامي الجزائري" سنة ١٩٣٦، ونجح نجاحًا منقطع النظير، وقطع وفده البحر إلى فرنسا، على أمواج من أمل الأمة وتشجيعها، فجنّ جنون الاستعمار، وخانه الصبر والأناة، فتعجّل بتدبير مكيدة اغتيال "المفتي كحول" في أسبوع رجوع الوفد، وفي يوم اجتماعه بالأمة، وغاية الاستعمار من تلك الحادثة قتلُ الحركة السياسية التي كان أجلى مظاهرها المؤتمر.