للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحق، والنكران لفضلنا عليها في الأزمات؛ أفلا يعذرنا العقلاء إذا أنكرنا كل فضيلة تتّسم بها، أو يسمها بها المفتونون بمدنيتها، المسبّحون بحمدها:

والناس أكيس من أن يمدحوا رجلًا ... حتى يروا عنده آثار إحسان

تريدنا فرنسا الاستعمارية على أن نحمدها بما لم تفعل، فنقول: عسى ولعلّ ... ثم تريدنا على أن نحمدها بما فعلت معنا من ظلم وعدوان، وأن نصوّر مساوئها فينا محاسن وأن نسمّي شرّها خيرًا، وجورها عدلًا، وإساءتها إحسانًا، وإهانتها تشريفًا، وأن ننكر إحساسنا وعقولنا، وأن نتنكّر للمنطق وللواقع، فلا نقول إلا ما يرضيها وإن جانب الحق، ولا نعمل إلا ما يوافق هواها، وإن أسخط الله، فنقول: لا، ثم لا، لأن ترجمة هذا كلّه أنها تلطمنا فنشكرها على اللطمة، وتعذّبنا فنقدّم لها شواهد الإخلاص.

هذه هي فرنسا التي نعرفها، أو هذا هو الجانب الذي نعرفه من جوانب فرنسا، قلنا فيه ما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان لها جانب غير الذي عرفناه، فسلوا عن العسل مَن ذاق طعمه، أما نحن فقد ذُقنا الحنظل، فوصفنا الحنظل.

ولو أن حاتمًا جمع كل ما قاله في نفسه، وقاله الشعراء فيه، في ديوان، وقرأه على جار له حُرم رفده، فلم ينل من لحوم نحائره حُزة، ولا من أوبارها جزة، أكان يهتزّ لذلك، ويشكره عليه، إن لم يكذبه؟ وكذلك نحن؛ لا نهتز لما تمتدح به فرنسا، أو يمدحها به المادحون، ما دمنا لم نرَ منه في أنفسنا إلا عكسه ونقيضه، وقلْ أنت: أنا غني، فلعلّك لا تجد من يكذبك، ولكنك حين تقول: أنا الجواد المفضل، تجد- لا محالة- من يقول لك: وأين الأثر؟ ولو أن ذكرك بالإحسان والعدل استفاض حتى ملأ مسامع الدنيا، لما أغنى عنك يوم الفخار شيئًا، إذا جاء جارُ بيتك يحمل من ترويعك له دلائل ويستظهر على تجويعك له بشواهد وبيّنات.

إن الاستعمار غشاوة على الأبصار، ورين على البصائر، فهو- كما يرمي فاعله بالعمى عن الحقائق- يَرمي المبتلى به بالعمى عن المحاسن، فلو أن فرنسا خلعت ثوب الاستعمار، ومحت رسومه، لزالت هذه الغشاوة عن بصرها فعرفت لنا حقوقنا، ولزالت عن أبصارنا فعرفنا لها محاسنها؛ وما دام الاستعمار، فالرين على البصائر والغشاوة على الأبصار، وليس في طبائع الأشياء غير هذا.

...

وإلى عقلاء العالم، وساقة القوافل البشرية نسوق الحديث، وإن كنا في شك من أن المادية الخبيثة أبقت في العقلاء معنى التعقّل، حتى يدركوا كيف يسعد الأقوياء بشقوة

<<  <  ج: ص:  >  >>