للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البرلمان، ونشر الجرائد لها، يصيّرها حقيقة واقعة، وسكوت الحكومة عن تكذيب ناشرها، وعن عقاب مُفشيها، هو إقرار لها، واعتراف بها، وتصديق بكل ما قيل عنها، وسمّه إن شئت- غير مكذب- "حكمًا بشرعيتها"؛ فإذا لم تصدق هذه الفلسفة العاقلة البسيطة- التي يَبْدَهُ بها كل عاقل- فلا بدّ من أحد جديدين: إما أن الأرض عمرت بالمجانين، وإما ... أن ملائكة الرحمة قد تنزلت على القوانين ...

ورجعنا إلى الماضي نستقريه ونسأله، فوجدناه كله شواهد على هذا، ووجدنا أنفسنا- بعد زوال الدهشة- أعلمَ الناس بهذا، وأحق الناس بكشف هذا، لولا بلادة تُخالط، ونفوس تُغالط، فقد علَّمَنا أول هذه المكائد آخرها وأنبأنا ماضيها بمستقبلها، ونفضت هذه النفوس الخبيثة سرائرها على أقلامها الكاتبة، وألسنتها الخاطبة، فتركتنا لا نُخطئ وزنًا ولا تقديرًا.

...

وقعت حوادث ٨ ماي المريعة، ودارت رحاها في سطيف، وخراطة، وقالمة، وانجلت عن تلك الفضائح الوحشية التي تكفي وحدها لتلطيخ تاريخ فرنسا بالسواد، من تحريق للديار، وإتلاف للثمار، ونهب للأموال، وتقتيل للرجال، وتذبيح للشيوخ والنساء والأطفال، وانتهاك للحرمات الإنسانية، مما لو رآه فرعون لافتخر بفوات ما فاته منه، فقد كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء ... وانتظر العقلاء- بعد انحسار الغمرة- أن تكفر فرنسا عن زلة أبنائها (الممدنين المعلمين) بتحقيق يمهّد للعدالة، ويكون من ورائه ما يقمع الظالمين، ويرضي المظلومين، ويكفكف دموع البائسين، ولكنها لم تفعل ... وأستغفر الله، بل فعلت كل أسباب النكبات الواقعة بعدها والمتوقعة.

ثم وقعت حادثة "دوار السطح" وهي نسخة مصغّرة من حوادث ٨ ماي، أو ذيل من ذيولها، أعيد فيها تمثيلُ رواية نهب الأموال، واستباحة الأعراض وانتهاك الحرمات، وانتظر العقلاء من الحكومة شيئًا يعيد النوم إلى الجفون الساهرة، والأمن إلى القلوب الواجفة، ولكنها لم تفعل ...

ثم وقعت حادثة "دوار علي بوناب"، وهي جزء من (ذلك البرنامج الحافل) وعلت فيها أصوات المتظلمين، وأوسعتها الجرائد بيانًا وتعليقًا، وانتظر العقلاء شيئًا من الحكومة، إن لا يكن إقرارًا للحق لا يكن إقرارًا للباطل، ولكن مواقفها من هذه الحوادث كانت متشابهة، كبقر بني إسرائيل، تصامًّا عن الحق، وتغطية للجريمة، ودفاعًا عن المجرمين، بل جاءت في هذه الحادثة الأخيرة ببدع جديد في باب المكابرة وإنكار المحسوس، فنسخت سنة "حسان الحق"، المنافح عن الحق، "بحسان الباطل" المنافح عن الباطل ...

<<  <  ج: ص:  >  >>