للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من ذلك الحين فهمنا، وفهم كل العقلاء أن تلك الحوادث أمثلة من قاعدة وعنوان على كتاب، وآثار من عقيدة انطوت عليها نفوس هؤلاء القوم، واصطبغت بها أرواحهم الخبيثة، وهي أن دم المسلم هدَر، وعرضه مباح، وماله فيء، ودينه لهو، ولغته لغو، ومنظره قذى، وبدنه هدف تدريب على الضرب، وصراخه من الألم نغمات موسيقية.

...

الحقيقة التي انتهينا إلى فهمها في العمليات، أن حادثة سطيف وما تفرّع عنها وما تبعها، لم تكن سماوية فتكون من سر الأقدار، ولم تكن جرح عجماء فتدخل في حكم "الجُبَار"، وإنما هي حوادث محكمة التدبير، مبيتة، مجمع عليها، من جامعة المعمّرين بإملاء رجال الحكومة أو ممالأتهم، ولم يبلغ بنا الجنون ولا الغفلة أن نعتقد أن الحكومة لم تكن على علم بكل مكيدة قبل أن ترجف راجفتها، لأنها تتمتعّ بحاسة في (الشم) لم يهبها الله لمخلوق.

وإذا قلنا: "الحكومة"، فإننا لا نعني رجالًا يحملون ألقابًا عالية، ويقتعدون مناصب رفيعة، ويذهب الواحد منهم فيخلفه آخر، وإنما نعني هذا الجهاز الاستعماري الثابت المقيم الذي لا يبرح، من موظفين صغار، ومعمّرين كبار، فهؤلاء في الجزائر هم الحكّام وهم الحكومة، وهم الحكم، وهم كل ما يتصرف من هذه المادة، لا نستثني إلا المحكوم والحكمة والحكيم، فليس فيهم محكوم، بل كل واحد منهم حاكم بأمره، وليس فيهم حكيم بل كل واحد منهم جبّار في الأرض، وليس في أعمالهم حكمة، وإنما هي ظلم، تمدّه قوّة، يمدّها استعلاء، تمدّه عنصرية رعناء.

ولم تكتفِ الحكومة بالسكوت على الفضائح التي اجترحها هؤلاء القياصرة في حوادث ماي وما تبعها، بل بالغتْ في تدليلهم بالبكاء على موتاهم، والتعزيات الرسمية والوعود الصريحة بالانتقام من قاتليهم، والإنعام على رؤسائهم بالنياشين والترقيات، على أننا نعادل كل قتيل منهم بآلاف القتلى منا، كل ذلك من غير أن تعطي موتانا لفتة مجاملة، أو تصدر منها لأحيائنا فلتة من حسن المعاملة، وكل ذلك كان في وقت لم تجف فيه دماء أبنائنا في مواطن الدفاع عنها، وانتزاع النصر من أعدائها، وكنّا نرضى الرضى كله لو فتح التحقيق ونصب ميزان العدالة، وتبين المجرم، ونحن- بعد ذلك- أهل العفو وأهل المغفرة.

ولم تكتفِ الحكومة بذلك ... وكأنها رأت أن عدد القتلى منا لم يبلغ النصاب المقرّر، فحكمت محاكمها العسكرية على العشرات بالإعدام ونفّذته فيهم، وكأن ذلك كله لم يشفِ غليلها، فسنت قانونًا متنه من وحي الرومان، وشرحه من فقه الإسبان، يقضي بمنع أيامى

<<  <  ج: ص:  >  >>