للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أمثالها من بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الوصافين لركاب الحج، المعدّدين لمنازله، احتذاءً للبوصيري في (عدة المنازل) (١)، من أمثال محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف، وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الآن؛ وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارُهم وأشعارُهم، عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يُرَحلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادّة التي يسلكها وصفًا شعريًّا مشوّقًا، أحسن مما يصفه الجغرافي المتقصّي، وأدخل في النفس منه، حتى يخيل إلى السامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين؛ وأذكر أنني في سن الصبا كنتُ سمعتُ أسماء زوارة وطرابلس، والجبل، ومسراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي، ودرنة، وأجدابية، متناثرةً في هذا الشعر، موصوفةً، محددة المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها.

...

ولإخواننا الليبيين- أو الطرابلسيين كما نسميهم- علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام، يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدّى، وإنّ من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدوًّا واحدًا، مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع- إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء، متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين؛ ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال؛ ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم- وقد قصمت الحرب ظهره- جائعًا يتضوّر، وقابعًا يتحفز، وحانقًا يتلظى، وراجيًا يتعلق، وطامعًا يتملق؛ ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات.

قاوم هؤلاء الإخوان الكرام الاستعمارَ الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجبار العنيد ختم عليهم بالعبودية


١) يقول البوصيري في قصيدته الهمزية في آخر تعديده للمنازل من مصر إلى مكة إلى المدينة:
هَذِهِ عِدَّةُ الْمَنَازِلِ لَامَا ... عُدَّ فِيهِ السِّمَاكُ وَالْعُوَّاءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>