للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المؤبّدة، جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا: وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدْرون أنهم يعينون استعمارًا على استعمار، وأنهم سينتقلون من شِدْق الأفعى إلى ناب الأفعوان؛ ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصمّت الآذان عن سماع صوتهم حينًا، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعًا كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة ١٩٥٢.

كنا نعرف أن الاستقلال جنة لا يعبر إليها إلا على جسر من الضحايا، وكنا نعدّ إخواننا الليبيين أول الداخلين إلى هذه الجنة بغير حساب، لأنهم قدّموا من الضحايا ما لم تقدّمه أمة شرقية، ولأنهم جمعوا أسباب الفلاح الأربعة: الصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد، ولكن شيطان الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخًا زمنيًّا، أو جسرًا ثانيًا غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهو هذا الأجل المحدد بسنة ١٩٥٢. ويقول الاستعمار: إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحبًا بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا.

واهًا لهذا الوطن المتردّد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تغرّ وتُغري، وإنّ لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعًا، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرة تتخطف، وصَوالجة تتلقّف، وأبالسةٌ تأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيمًا للممالك، ومن أبناء الوطن فريق من أعوان التفريق، وأعوان التحريق، وهنا أصل البلاء، وهنا منبت العلة، وهنا- فقط فقط- جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه ...

وحنانًا على إخواننا المجاهدين! ... كتب عليهم أن يتجرّعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركي، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطالي، وها هم أولاء يتجرّعون مرارة التنكر من حلفاء دلوهم بغرور، وسجروا بهم التنوّر، ثم أخلفوا الوعد، ونقضوا العهد.

من بعض حقكم علينا- أيها الإخوان- أن نسعدكم، ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير منبه، وليسعد النطق إن لم يسعد الحال.

<<  <  ج: ص:  >  >>