في نفوسهم مثول ذكريات الشباب في نفوس الشيوخ، وليس بين إشراق الشباب وأفوله إلا فسحةٌ في العمر، وإن كثيرًا من الأحياء في ليبيا أدركوا زمن انتزاعه، وسيدركون زمن ارتجاعه.
...
هذا الشيء الذي يسمونه (مجلس الأمم المتحدة) لم يبلغ من العدل والرحمة أن يقسم الحقوق بالسوية، وأن يقتص للجمّاء من القرناء، بل دينه وديدنه أن يركب للقرناء قرونًا أخرى تنطح بها المستضعفين، وتذودهم بها عن مراتع الحياة ومواردها؛ وقد قرر ذلك المجلس استقلال القطر الليبي العزيز، استقلالًا شابه بالدخن وشانه بالتأجيل؛ ومع ذلك فقد تهللت أسرّة، وخفقت قلوب، وحييت آمال كانت كامنة في النفوس، وتشوّف المدلجون- بعد هذه التباشير- إلى الفجر الصادق، بتبلّج عموده على هذه الرقعة، آملين أن يعمّ بقية الرقاع، لكن المتعمقين كانوا يرون أن هذا القرار ليس من طبيعة الروح الشريرة التي تصرّف ذلك المجلس وتسيره؛ وإنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد المتواصل، من ذلك الشعب الذي نقص الاستعمار عدده وأمواله، ولم ينقص اعتداده بنفسه وإيمانه بحقه؛ وأنه أثر من آثار أصوات الدول الصغيرة التي أكسبها الاتحاد قوة في ذلك المجلس، فاتجه سعيها إلى نصرة الضعفاء، "وكل ضعيف للضعيف نسيب"، وأنه نتيجة من نتائج التشاكس بين مطامع الأقوياء، ومخاوف بعضهم من بعض، فلولا التنين، الذي ابتلع الصين، ولم تزل كبده حرّى إلى نُغبة من ماء البحر الأبيض، لما وافقت أمريكا وإنكلترا على قرار الاستقلال، ولولا العملاق الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار، فهو بما حفه من هذه الأسباب، استقلال كياد من الدول الغربية لروسيا، يردن منه إقصاءها عن البحر المتوسط، ليأمنَّ شرها وشركها؛ ثم يقسمن الفريسة أجزاء، كما شاء لهن الهوى بأسماء خلّابة من ورائها قوة غلّابة، وما كان ذلك التأجيل إلا لهذا، وقد ظهرت الحقائق جلية بما بدر منهن- الواحدة بعد الأخرى- قبل أن يجف مدادُ قرار الاستقلال، هذه في فزان وتلك في برقة، وثالثة تنتظر طرابلس؛ وإنهن لبالغات إلى أهدافهن، وواجدات فينا من يأخذ بأيديهن إليها، ومن يَمْدُدْنَ له في أسباب المطامع، فيقطع لأجلها صلته بالله، وعلاقته بالوطن، إلا إذا بدأنا بالأشراك المنصوبة بيده فأزلناها، وبادرنا إلى الأوثان المرفوعة باسمه فكسرناها، وعمدنا إلى النقائص المتأصلة في نفوسنا فاستأصلناها، وصمدنا إلى الجموع المتفرقة فجمعناها، وإلى الألسنة الداعية بالتفريق فقطعناها، وإلى الشهوات الجامحة فقمعناها، وإلى الألقاب المهينة فمحوناها، وإلى العزائم المرتخية فقوّيناها بالحق وشددناها، وإلى جميع الثغر التي يأتينا منها العدو فأغلقناها في وجهه وسددناها، ثم لقيناه بعد ذلك بصف واحد، وإرادة واحدة، ولسان واحد، ورأي جميع،