وعزيمة ترتد عنها المحاولات حسرى، وكلمة واحدة لا يقبل معناها التأويل، وهي (أن هذا الوطن واحد لا يقبل التقسيم، وأن أبناءه وحدة لا تقبل التجزئة، وأنهم يريدون حياة حرة كريمة)؛ ولو فعلنا ذلك لجاء الاستقلال عفوًا بلا طلب، صفوًا بلا كدر، بمعناه في لغتنا لا في لغة قياصرة مجلس الأمم.
إن هؤلاء الأقوياء قد راضونا على الشهوات الخسيسة، حتى عرفوا مواقعها ومداخلها إلى نفوسنا، فأصبحوا يقودوننا بزمامها، ويبتزّون ضمائرنا بالشهوات النفسية، كالرتب والألقاب، وأموالنا بالشهوات الحسية، كفضول اللباس والطعام والشراب، وإن أوقى الجُنَن منها الزهد فيها، والتعفف عنها؛ ولو أن أهل فزان- مثلًا- استنارت بصائرهم، ونالت منهم الموعظة بغيرهم، فرفضوا لقب "الباي"، وهجروا شرب "التاي"، لسعت إليهم الحرية حبوًا.
...
من كتم داءه قتله، وقد آن أن نعلن داءنا، ونعترف بنقائصنا، وإن لم يكن لنا فضل المعترف، فقد فضحنا الزمان قبل أن نفيء إلى أنفسنا، ونتدارك الوهي بالترقيع، فصيَّرَنا بذلك مثلة في الإنسانية، وداء إخواننا الليبيين هو داؤنا جميعًا، ليس لأحدنا فيه فضل إذ لا فضل في النقص، ولا بيننا فيه تفاضل، لأن علة العلل واحدة؛ هو الداء الذي ترك جزيرة العرب تضم ملاءتها على بضع دول وإمارات، وعلى عدة ملوك وأمراء؛ ولولا ذلك الداء لكان للعرب دولة واحدة، لأنهم أمة واحدة في رقعة واحدة، ولكان ذلك أرهب لعدوّهم، وأحفظ لحقيقتهم، ولولا ذلك الداء لما ضاعت فلسطين، ولما بؤنا بسبة الدهر وعار الأبد.
أصل دائنا التفرق والخلاف، بدأ صغيرًا في الدين، ثم بدأ كبيرًا في الدنيا ومن الخلاف تشعبت شعب تلتقي معه في الأثر والنتيجة والشر والضر، والطعم المر؛ كما يحمل الفرع خصائص أصله، فاذكر الخلاف تذكر التخاذل والأنانية ووهن العزائم، واذكر الخلاف تذكر عدم الاعتداد بالنفس وعدم الثقة بين الإخوان؛ واذكر الخلاف تذكر تعدد الزعماء والأحزاب في الوطن الواحد، واذكر الخلاف تذكر ضعف العقيدة وخطل الرأي، واذكر الخلاف تذكر بيع الذمم والضمائر، والتفريط في المصالح الوطنية، واذكره تذكر كل مرض عقلي نعانيه، وكل حقيقة في الحياة نغلط فيها؛ فالرجولة مائعة، والتفكير سطحي، والتضحية أقوال، والأهواء متبعة، والزعامة زعم، والنصر تصفيق، والقضايا الخطيرة نلقاها بالعقول الصغيرة، والألسن القصيرة؛ وهذه الأمراض هي التي أدركها المستعمرون فينا فاحتقرونا، ولو لم يعتبرونا أطفالًا لما وضعوا في أيدينا هذه اللعب يلهوننا بها عن أعمال الرجال.