وعذرًا إذا تعجلتُ كلمةً منصفة، وهي أن الإصلاح المأمولَ لا يتوقف منه على الحكومات إلا شطرُه المادّي، وأهونْ به، أما شطرُه الآخر- وهو اللباب- فلا يضطلع به إلا ثلاث فرق متساندة مخلصة: المسيّرون لهذه الجامعات بالإدارة والتعليم، والتلامذة، والأمة، ومن اعتمد في هذا القسم من الإصلاح على غير هؤلاء فقد سجّل على نفسه قصر النظر، وقصور الرأي، والتقصير في الواجب.
وإنني مرسل إلى أبنائي التلامذة الزيتونيين بالكلمة التالية، تحييهم، وتشدّ من عزائمهم، فإن لم تكنْ رَوْحًا يدوم ويبقى، تكنْ ريحانًا يُشمّ ويذوى، وإذا تأخّرتْ عنهم فعذرُها أن العُرْج في آخر الذود، فلينتظروا العوْد، وأن عسى أن أكونَ قد قمت ببعض حقّهم عليّ.
ما هذا التصميم الذي يفلّ الحديد؟ وما هذه العزائم التي لا تعرف الهزائم؟ وما هذا التحدّي الذي يقهر الخصوم اللدّ؟ وما هذا الإصرار الذي يقتحم البحر وقد جاشت غواربه؟
إنها- وأبيكم- هبة من نفحات الأجداد، طاف طائفها بنفوس لم يدنّسها الاستبداد، ولم يكدر صفوها سوء الاستعداد، فهاجت وتلظّت، ولازَمت فألظّت، ولو غير نفس العربيّ المسلم كانت، وغشيها من صدإ السنين وعنت الأيام ولؤم التحكّم ما غشيَ النفس العربية المسلمة- لَلانت، ثم هانت، ثم ذابت وادّغمت، أو لاطمأنت إلى شيمة العبيد، أبد الأبيد، ولكنها النفس العربية المسلمة، تركّز في التراب ولا تبلى، وتراوحها الأنداء فلا تصدأ، وتصلَى النار ولا تحترق، فقولوا للذين يريدون طمس التاريخ، ومحو الخصائص النسبية، والمعاني الإرثية: أطمسوا ما شئتم مما سطرته الأقلام في الكتب، أما ما كتبته يد الله في النفوس فمحال أن تطمسوه، ولأنتم أعجز من ذلك، ولا كرامة، وإنّ نبْض عرق واحد بخصيصة دموية ليضيع عليكم جهد العقول والسنين.
وأنا عربي، أعرف الخصائص العربية، وأغالي بقيمتها- على بصيرة- في قيم الخصائص الإنسانية، وأتلمّحها من مأثور أقوالهم كأنني أراها، وأبالغُ فأجعلها ميزانًا لتصحيح الأنساب، وأنا- في ذلك كله- مؤمن بناموس الوراثة، ثم أتصفَّح تلك الخصائص في أخلافهم فلا أجدُها، فأرتاب في النسبة، وأقول إنها هُجنة دسيسة، أو نطفة خسيسة، وأبقى ظاهريًّا حتى يقوم دليل، وقد أقام أبناؤنا الزيتونيون الدليل هذه المرة على أنهم عرب، فليهنأوا بصحة النسب، قبل نيل الأرب، وإنها لصفقة رابحة.
أجدَّكم أن العزائم التي قهر أجدادُنا الفرسَ والرومانَ بمثلها قد تمثّلت من جديد، في الشباب الزيتوني العتيد؟ وأن الإصرار الذي لبِس طارقًا فأخضع به الجبّارين: البحر والجبل، قد لابس نفوس أبنائنا الزيتونيين كرةً أخرى؟ وأن الإيمان الذي صاحب خالدًا في اليرموك،