وأصحاب الغرض السياسي؛ والفريقان في جميع أطوار التاريخ يتجاذبان في حالي تصافيهما وتجافيهما هذه الخلّة، وهي اتخاذ الدين سُلمًّا لأغراضهما الدنيوية والسياسية، ولو بما يهدِم الدين؛ وقد تلبَس دعوى حماية الدين لبوس صدق زائفًا، إذا صدرت من منتسب إليه، ولكنَّ الشناعة التي لا توارى، والفِرْية التي لا يصدقها غبيّ ولا ذكي، هي صدورها من أجنبيّ عنه، مجاهرٍ بعداوته، كدعوى المسيحيّ حماية الإسلام، أو دعوى المسلم حماية الأنصاب والأزلام.
علماء الدين- إذا أصلحهم الله- هم حماة الدين حقًّا، وهم المؤتمنون عليه، وهم - إذا عافاهم الله من الجبن والطمع- حفَظته وأنصاره وأسماعه وأبصاره، وهم- إذا سدّدهم الله- نبالُه وقِسيُّه، وحِباله وعصيُّه، وكلهم- إذا جمع الله كلمتهم- غِفاره ودَوْسه، وخزرجه وأوسه؛ ولو أن علماءَنا- من خمسة قرون- حافظوا على تلك الصولة التي كانت لسلفهم على أهل الدنيا والسياسة، لسرَتْ إلينا منهم نفحات ينعشُنا عبيرها، ولمحات يهدينا شعاعها، وإذن لا يكون لهؤلاء الأدعياء في الدين هذه الجرأة على الدين.
أما والله لو أنّ الحاج التهامي كان يشعر بأن علماء الدين محتفظون بقوّتهم وسلطتهم لما حدّثته نفسه باقتراف ما اقترف، ولو لقَّنه ألف ملقِّن، ولكنه شعر بخُلوّ الغاب من أشباله، وفراغ الميدان من أبطاله، فتجرَّأ ثمّ اقتحم ...
ولسنا في هذا الموقف فضوليين، فلو أن الحاجّ التهامي دافع عن منصبه المخزني، وعن نفوذه الإداري، واستعان على ذلك بمن شاء، وركب في ذلك من الوسائل ما يركبه أمثاله من أمراء الإقطاع، وأحلاف السيوف والأنطاع، لما لَفت أنظارَنا إليه، ولما خالف الصورة التي نحملها له في أذهاننا؛ ولكنه فاجأنا بدعوة لم يسبقها إرهاص، وأذّن فينا للصلاة بِلُغة الزنوج، فادّعى أن ثورته إنما هي لحُرُمات الدين المنتهكة، ثم غلا فطلب من فرنسا حماية الإسلام، كما نقلتْ عنه بعض الجرائد الفرنسية فأزعجنا من ذلك ما يزعج كلّ عالم مسلم يغار على الإسلام أن تُنتهك حُرماته، ويعُدُّ أكبر انتهاك لها أن ينتصب لحمايتها إمامُ المنتهكين لها، وأن يستعينَ في ذلك بأكبر العاملين على انتهاكها.
إن وطن الإسلام حيث تُقام شعائرُه، وتتناوَح عشائره، فلنا في كل قطعة منه شرك، ولنا في كل قبيل من أهله نسبة، وعلينا في كل موقف من مواقف النضال عنه حق، فليهنأ الحاج التهامي، فوالله ما كنّا نتوقّع له أن تكون عاقبة علوّه جفاء لسلطانه، وتنكُّرًا لإخوانه، واحتقارًا لدينه، وسعيًا في نكث الحبل، وتشتيت الشمل، واستعاذةً من الفخ بالخاتل، واستعانة على الحياة بالقاتل ...