وما زال الاستعمار يروّض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطَّعوا في الأرض أممًا ليس منهم الصالحون ... ثم تقطَّعت الأمم جماعات، وكلّما آنس منهم مخيلة انتباه غرّهم بما يغرّ به الشيطان، بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرّهم بما ينجرّ به الصبيان: ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في مسيل واد، حتى ابتلع ممالكهم، واسترقَّ ملوكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلًا في الآخرين، واعتبرْ ذلك بهذا الاستعمار الجاثم في شمال أفريقيا، وعدْ بذاكرتك إلى مبدإ أمره، وكيف أكل العنقود حبّة حبّة، متمهّلًا مطاولًا، يرقب الخُلسَ، ويدَّرع الغَلس؟ وكيف أطعمتْه غفلتنا الكراع، فأطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كلّه أكلًا. وكيف كان يعتدي على الجزء، فيقابله الكل بالهزء. اعتبر ذلك ترَ أننا ما أخِذنا بغتة، ولا سُلبنا هذا الملك الضخم فلتة، وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر، والتعاوي بالتعاون، ثم نزلنا دركة، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل قاتلهما معًا، ولو اتّعظ الأخير منا بالأول لما مدّ الاستعمار هذا المدّ، ولما بلغ فينا إلى هذا الحدّ.
...
وحلّت المحنة بالمغرب الأقصى، وجاءت فرنسا بالخاطئة، فأهانت ملكًا، وهدّدت عرشًا، وأذلّت شعبًا، وروّعت سربًا، وانتهكتْ حُرمات، واعتقلت أحرارًا، وكبتت أصواتًا، وحطت أعلياء من مراتبهم، ونصبَتْ أدنياء في غير مناصبهم، واستعانت على العقلاء بالسفهاء، وسلّطت الأخ على أخيه، والرّعيّة الآمنة على ملكها الأمين، وأشعلت النار بنا، لتُطفئها بنا ... فلا يكون ضرامها في الإشعال والإطفاء إلا أجسامنا ودماؤنا ... وجنت - بذلك كله- ثمار ما زرعته من تفريق، ورأينا- رؤية العين- ما كنّا نحذره على المسلمين، ونُحذّر منه المسلمين ... رأينا المثال المجسّم من انتصار الاستعمار بالمسلم على أخيه المسلم، وترويع المسلم بأخيه المسلم، وخوف المسلم من أخيه المسلم، كلّ ذلك والدين واحد، والوطن واحد، والمصلحة واحدة، والخصم المتربّص واحد، ولولا حكمة من العقلاء، وأناةٌ من الحلماء، لأريقت دماء المسلمين بمُدَى إخوانهم، في سبيل تمكين الاستعمار من رقاب جميعهم، ولعمري إنها لأقصى غاية من الفساد بلغناها، وأقصى أمنيّة للاستعمار نالها بنا فينا.
من كان يظنّ أو يتوقّع أن يجلب الاستعمار على عرش من عروش الإسلام العريقة، لا بخيله ورجله، بل بخيل المسلمين الذين رفعوا دعائمه ورجلهم؛ من كان يظن أو يتوقَّع أن الاستعمار يبلغ منا هذا المبلغ، فيدوسنا بأرجلنا، ويريق دماءَنا بأيدينا، وينتصر علينا بنا،