ويصيِّر من بعضنا لبعضنا "بعابع" تخويف، ووحوش إرهاب، ويبلغ في ترويضنا إلى حد أن نصبِح أذلةً عليه، أعزةً على قادتنا ورجالنا؟ من كان لا يظن ذلك ولا يتوقعه، فها هو ذا محقَّق غير مظنون، وواقع غير متوقع، ولئن وقع متفرقًا في غير المغرب، فقد وقع كله مجتمعًا في المغرب.
وكأنّ الأزْمة اشتدّت لتنفرج ... وكأنْ القنديل آذن بالانطفاء فتلك إيماضتُه الأخيرة، وكأنّ يد الله التي ارتفعت عنّا بما كسبت أيدينا قد لامستنا هذه المرة ... فلم نرَ محنةً من المحن التي جرّها الاستعمار على الإسلام وعلى الشرق، كانت أجمع للقلوب، وأدعى إلى التناصر من هذه المحنة، فقد كانت عاملًا إلهيًّا فتح العيون العُمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغُلف، وأيقظ الشواعر النائمة، ونبّه القوى الخامدة، فتعاطفت الأرحام المتقاطعة، وتعارفت الأرواح المتناكرة، فكانت تلك الموجة الجارفة من السخط والغضب والامتعاض، ظهرت في صحف الشرق، ثم سرت إلى حكوماته وهيئاته، ثم انتقلت عدواها إلى الشعوب، فكوّنت إجماعًا رهيبًا على انتصار المشرق للمغرب، لم يسبق له مثيل، وكانت غضبةً إسلامية ارتاع لها الاستعمار، وقدّر عواقبها، فلاذ بالحيلة والكيد والتهديد على عادته، وواهًا لها غضبةً لو اعترتنا مرةً أو مرتين قبل اليوم، لما عاش الاستعمار بيننا إلى اليوم!
إننا- على ضعفنا- ما زلنا نملك أسلحة لو أحسنَّا استعمالها مجتمعين، لأرهبنا صهيون ونيرون معًا، ولكنّ طالع الاستعمار ما زال بغفلتنا وتخاذلنا متنقلًا بين "سعد السعود" وبين "سَعْدِ بُلَع"، ولو عاملناه بغير هذه المعاملة لكان منزلُه "الدَّيران". ولو أن المسلمين والشرقيين عمومًا لقُوا خصومهم في كل معترك سياسي بمثل هذا الإجماع في الرأي، والتواطؤ على الغضب، لهَتَموا أنيابهم الحداد، وقلَّموا أظافرهم الجاسية، ولكنهم لانوا لخصمهم أولًا، فقسا عليهم أخيرًا، وعوّدوه أن لا يلقوه جميعًا، فعوّدهم أن يلتهمهم جميعًا.
ونكون عقلاء واقعيين إذا قدّرنا أن هذه الضجة التي أثرناها ستنتهي بلا فائدة، ولا تنال من ظاهر الاستعمار منالًا؛ لما نعرفه من أساليبه في إسكات مثلها بالحيلة والكيد؛ ولما نعرفه من أنفسنا من عيوب الانخداع والاغترار وسرعة التراجع، وعدم الاستمساك، ولكننا نكون عقلاء واقعيين أيضًا إذا قدرنا هذه الضجة قدرها، وأعظمنا آثارها النفسية في الشعوب الإسلامية والشرقية، وأقمناها دليلًا على شمول اليقظة لها، وحياة الشعور فيها، وانتزعنا منها فألًا، ما ينتزعه الاستعمار منها طيرة.