واحدة، أو في كل واحدة منها امتحان تكميلي للإيمان، تعلو فيه قيم، وتهبط قيم، وفي التوحيد امتحان لليقين، واليقين أساس السعادة، وفي الصلاة امتحان للإرادة، والإرادة أصل النجاح، وفي الحجّ امتحان للهمم بالسير في الأرض، وهو منبع العلم، وفي الصوم امتحان للصبر، والصبر رائد النصر، ونحن نريد من الامتحان هنا معناه العصري الشائع.
غير أن الصوم أعسرها امتحانًا، لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية ومقاومُ الشهوات في نفسه أو في غيره قلما ينتصر، فإن انتصر فقلما يقف به الانتصار عند حدّ الاعتدال، بل كثيرًا ما يجاوزه إلى أنواع من الشذوذ والتنطع تأباها الفطرة والعقل، وهذه الروح المقاومة في الصوم هي التي راعتها الأديان والنحل، فجعلت الصوم إحدى عباداتها، تروّض عليه النفوس المطمئنة، وتروّض به النفوس الجامحة؛ ولكن الصوم في الإسلام يزيد عليها جميعًا في صوره ومدّته، وفي تأثيره وشدّته، فمدّته شهر قمري متتابع الأيام، وصورتُه الكاملة فَطْم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكلّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم. فلا يتوهمنَّ المسلم أن الصوم هو ما عليه العامّة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحبّ الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا ... إن الصوم لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه، وللسان شهوات في الغيبة والنميمة، ولذّات في الكذب واللغو والتزويق: وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القويّة، وأن تلك الضراوة هي التي هوّنت خطبه حتى على الخواص فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم؛ وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنَّة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم.
...
صوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقّة على هجر اللذائذ والطيّبات، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكّمه في أهوائها،