للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وضبطه بالجِدّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوّروا ما يفعله الجوع بالجائعين، وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا، فلو أن جائعًا ظلّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوّر للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف.

لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء، وسيّد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان.

...

ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرّة، وصفحة سماوية تتجفى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه، فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانهم في تلك الصفحة.

ورمضان "مستشفى" زماني يجد فيه كلّ مريض دواءَ دائه، يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البِطنة والنعيم بالجوع والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية.

ورمضان جبّار الشهور، في الدهور، مرهوب الصولة والدولة، لا يقبل التساهل ولا التجاهل، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال، وأن معظم جنده من الأطفال، يستعجلون صومه وهم صغار، ويستقصرون أيامه وهي طوال، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد، وكانوا له بالمرصاد، ورشقوه ونضحوه، و (بَهْدلوه) وفضحوه، لا ينجو منهم مختفٍ في خان، ولا مختبئ في حان، ولا ماكر يغِشّ، ولا آو إلى عشّ، ولا متستّر بحُشّ (١): ولا من يغيّر الشكل، لأجل الأكل، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه، ولا بسفور الرأس، ولا برطانة اللسان، كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة، حتى الهيئات والكلمات، وهم قوم جريحهم جُبار الجرح، وقتيلهم هدر الدم.

سبحان من ضيّق إحصارَه ... وصيّر الأطفال أنصارَه

وحرّك الريحيْن بُشرى به ... رُخاءَه الهيْنَ وإعصاره

...


١) الحش: الكنيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>