للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صمّمت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التي فيها الشرف والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، واستفرغت الجهود، وبعد أن استعرضت الماضي بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من العمل خير من ألف شهر في الكلام، وأنها تمارس خصمًا إن استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول، فخطت هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظالمه، ومن نصر النظارة، يركب الحدّ الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادي ربّه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}.

رأت مصر- كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة- أنّ السنّة قد انعكست، فأصبحت أيام الحرب أكثر عددًا من أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار شغلتهم الحرب عن السلم، ولم تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا في حرب متصلة الحلقات.

وعلمت مصر- كما علم غيرها- أن الشعار الكاذب لحرب ١٤ - ١٨ هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب هي بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب جمعة يجب الإنصات له، ويَحرُم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن اللصوص المنتصرون في استعباد المستضعفين، وصمّت آذانهم عن سماع أصواتهم، وجاءت حرب ٣٩ فتجدّدت تلك الوعود بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشدّدة، وسيقت تلك الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع غيرها، فلما خفّت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة الكذب والإخلاف إلى مستقرّها من نفوس اللصوص، وعادت الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكّم واستعباد، وما انتهت تلك الحرب حتى ظهرت على العالم أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة، وأصبح العالم كله استعدادًا لها، وأوجد الطغاة العالون في الأرض بذلك مرخّصًا لطغيانهم، ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير، وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة، والتعلّل بأن الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية في خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شيء ثم نتناصف، وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكّمهم في الشعوب والأوطان واستئثارهم بقوّاتها وخيراتها، فقالت مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفني، مع احتراقي بنارها، وكانت السلم لا تنصفني، مع اضطلاعي بوسائلها، وتمهيدي لأسبابها، فلأنتصف لنفسي، ولآخذ حقي بيدي ... فأقدمت وجاءت بها غراءَ مشهّرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السّبل؛ ولعمري لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنّها فيها رجال من العرب الأشاوس ...

***

<<  <  ج: ص:  >  >>