للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مقلوبًا كان هو السبب في انقراض كثير من الدول الإسلامية، أو في اختلال أحوالها، وهو احتكار المماليك لمراتب الإمارة. ولو رزق الله بغداد عالمًا كابن عبد السلام في شجاعته وسمو نفسه، لأنقذ الخلافة العبّاسية من المماليك الأتراك ببيعهم في سوق الرقيق، وإقرار الأشياء في نصابها، ولو رزق الله الأندلس عالمًا مثله لأنقذ الدولة الأموية فيها من موالي المنصور بن أبي عامر، ولأفاء عليها من الخير والبركة ما لم يُفِئْه "خيران" و "مبارك" من أولئك الموالي.

وما كانت كلمة أولئك العلماء نافذةً ذلك النفوذ الخارق للعادة إلا لأنهم نسوا أنفسهم وذكروا الله، وآثروا ما عنده، من منازل الكرامة على ما عند الأمراء من الرتب والألقاب، وما عند الأغنياء من المال والمتاع، وتجرّدوا من الرغبة التي تُذِلّ الرقاب، ومن الرهبة التي تكُمّ الأفواه، فإذا قالوا قال الله، وإذا قال الله بطل كلّ قول وكلّ قائل.

وما أحوج مصر اليوم إلى علماء من ذلك الطراز، يقولون كلمة الله في السلم فتكون هادية إلى الصلاح، وفي الحرب فتكون قائدةً إلى النصر، لأن كلمة الله في لسان العالم الربّاني هي الميزان العادل، وهي الحبل الواصل، لأواخر الأشياء بأوائلها، وهي التي توجّه الناس إلى وجهة واحدة هي قبلة الحق، وهي التي تقودهم إلى ميدان التضحية والاستشهاد، وهي التي تمحو النزوات الطائشة، وتثبّت البصائر باليقين، وهي التي تحدّد علاقتهم بالله فلا يجاهدون في سبيله وهم منحرفون عن سبيله ... ولكن مصر لا تبلغ هذه الأمنيّة إلا إذا عاد في الأزهر سلطان العلماء إلى ما كان عليه في أيام "سلطان العلماء"! .. فقد أصبح علماء الدين تابعين لا متبوعين، وهانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس، وتركوا سياسة العامة بالدين، لمن يسوسها بالدنيا، فلا بدين تمسّكت ولا بدنيا ظفرت.

...

فإذا انتقلنا من أثر الأزهر في الثورات إلى أثره في فروع النهضة الأخرى، فإننا نجده ساهم في الكثير منها بالسهم الوافر، وشارك علماء الاختصاص الدنيوي فيها بالأعمال الجليلة، وفروع هذه النهضة متشابكة، تتقارب حتى تخفى الحدود الفاصلة بينها، وتتباعد حتى يصير كل فرع أصلًا برأسه، وأبرز فروع النهضة المصرية التي كان للأزهر فيها أثر بارز هي: الدين، والأدب، والسياسة، ولا أبعد إذا قلت: إن النهوض بهذه الفروع الثلاثة بدأ من الأزهر وتدرّج إلى الكمال فيه، ومن حسنات شوقي أنه يقرّر هذه الحقائق في شعره فيقول في الأزهر على عهد المماليك الأخير:

<<  <  ج: ص:  >  >>