ظلمات لا تَرى في جنحها ... غير هذا الأزهر السمح شهابا
قسمًا، لولاه لم يبقَ بها ... رجل يقرأُ أو يدري الكتابا
ويقول في النهضة السياسية ونشأة القضية المصرية وهو يتحدث عن الأزهر:
وُلدت قضيتُها على محرابه ... وحبَتْ به طفلًا وشبَّت مُعصِرا
...
وأنا لا أكاد أسمِّي نهضة مصرية إلا ما كان منبثقًا من روح مصر الشرقية، ووضعيتها الإسلامية، وطبيعتها العربية، فهذا هو الذي أجلّه فيها وأكبره، لأنه انتشار لشيء كانت أصوله مطوية فيها، وامتدادٌ لمعان كانت ناقصة في الدلالة، مقصورة على الأوليات، كمينة في خبايا الأنفس، ولا يتمدد الزئبق ويستطيل في رأي العين إلا لأنه زئبق وتلك خاصيَّته ... ومحال أن تنهض أمة بغير خصائصها، أو تقوم بغير مقوّماتها، فإن نهضت بغير ذلك فتلك نهضة مزوّرة؛ وحقيقتها أنها انتقال إلى الأمة صاحبة تلك الخصائص، وارتحال بالعقول من موطن إلى موطن، أو هي "تجنُّس فكري" سُمِّي نهضة.
وعلى هذا الرأي فأنا لا أسمّي نهضة إلا ما كان آتيًا من الأزهر، أو متسبّبًا عنه ومتصلَّا بَه، مباشرة أو بواسطة أو بوسائط، وكل ما جاء على غير طريقه فهو ثانوي أو مكمّل، ومن المبهج أن هذا هو الواقع في نهضة مصر، فإن الدعائم التي قامت عليها دولة البيان نُحتت من معدن الأزهر، وإن معظم الأقطاب الذين اضطلعوا بالسياسة نشأوا نشأتهم الأولى في الأزهر، وإن أول صوت جهير ارتفع بالإصلاحين الديني والاجتماعي خرج من الأزهر، وإن الترويج للنهضة في الأرياف والدعاية للآراء، كان بألسنة أبناء الأزهر، ولولاهم لما راج في مصر رأيٌ، ولا ثبتت عقيدة، وإن زعموا لها المزاعم، وعقدوا عليها صلاح الدين والدنيا فهم أعصاب القرى، كما يصفهم شوقي في قوله:
هزّوا القرى من كهفها ورقيمها ... أنتم لعمر الله أعصاب القرى
أثر الأزهر في النهضة المصرية هو الجزء الطبيعي الأصيل فيها، وهو الخميرة التي تُحيل الدخيل أصيلًا، لأن ذلك الجزء منزّل على طباع الأمة، ومرتبط بدينها وآدابها وتاريخها، وكل ما لابس النهضة من غير طريقه فهو مستوحًى من روح العصر كما يقولون، وليست لنا يد في تكييف هذا العصر حتى تكون روحه ممازجةً لروحنا، وموافقة لتفكيرنا، وإنما هو مستعار من أمم ليست بيننا وبينها صلة من دين ولا أدب، وليست متفقة معنا في تقدير الموازين الخلقية، والقيم الإنسانية، والاعتبارات الزمنية، وحسبنا دليلًا على هذا أن النهضات- في حقيقة معناها- تجديد وإصلاح، ولا يكون التجديد إلا