للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بُني على هذه المقدمات الكاذبة، ونغش أنفسنا إذا صدّقنا أن مدارسنا الابتدائية كليات، ويا خجلتنا بين الأمم الجادة، إذا صارفتْنا على السماع بالقناطير فلم تجد عند العيان إلا الدوانق.

يا قومنا! إن للواقع عليكم حقًّا، وإن للتاريخ حقًّا، وإن للأمة التي تعملون لها حقوقًا، فأنصفوا الثلاثة من نفوسكم!

...

٤ - الاستعمار

عجيب! ... وهل الاستعمار مظلوم؟ إنما يقول هذا (كولون الشمال) (٢) أصحاب الكيمياء التي أحالت السيد عبدًا، والدخيل أصيلًا، أما أنت فتوبتُك أن تحشر كلمة "مظلوم" هذه في الكلمات المظلومة.

هوّن عليك فإن المظلوم هنا هو هذه الكلمة العربية الجليلة التي ترجموا بها لمعنى خسيس.

مادة هذه الكلمة هي "العمارة" ومن مشتقاتها التعمير، والعمران، وفي القرآن: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيب، وفروعها طيبة، ومعناها القرآني أطيب وأطيب، ولا ننكر من استعمالاتها في ألسنة خاصتنا وعامّتنا إلا "العمارة" الدرقاوية (٣).

ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث، ظلم لها، فاستحقّت الدخول من هذا الباب، والإدراج تحت هذا العنوان.

فالذي صيّر هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس، ثقيلة على الأسماع، مستوخمة في الأذواق، هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدّي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشره، والقسوة، والانتهاك، والقتل، والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسّرها آثاره وتنجلي عنها وقائعه.


٢) الكُولُون: هم المستوطنون الأوربيون. والشمال: شمال افريقيا.
٣) العمارة: معناها الرَّكْب. الدرقاوية: هي الطريقة الصوفية المعروفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>