للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مؤتمر الزوايا بالجزائر، وليقوم للحكومة بما عجزت عنه من استئلاف النافر، واستنزال العاقّ، وليوحّد بين الأقطار الثلاثة ولكن بالتفريق، ولينقذها من البحر ولكن بالتغريق.

كان عبد الحي فيما مضى يزور هذا الوطن داعيًا لنفسه أو مدعوًّا من أصدقائه، وهم طائفة مخصوصة، فكنّا نولّيه ما تولّى، ولا نأبه له، وكانت تبلغنا عنه هنات كاختصاصه بالجهّال وهو عالم، وانتصاره للطرقية وهو محدّث، إلى هنات كلها تمسّ شرف العلم وكرامة العالم، فكنّا نحمّله ما تحمّل ولا نبالي به، وكان يزور لمامًا، ويقيم أيامًا، ولكنه- في هذه المرّة- جاء ليتمّم خطّة، ودخل الباب ولم يقل حطّة، وصاغ في الجزائر حلقات من تلك السلسلة التي بدأ صنعها في المغرب، دلّتنا على ذلك شواهد الأفعال والأقوال والملابسات والظروف، ثم زار تونس ليؤلّف فيها "تكميل التقييد" (١) وكأنه يتحدّى بهذه الرحلة الطويلة رحلة أبي الحسن المريني (٢) ... وشتّان ما بين الرحلتين. تلك كانت لتوسيع الممالك، وهذه كانت لتوزيع المهالك، ويا ويح الجزائر المسكينة، كأن لم تكفها الفتن المتماحلة حتى تزاد عليها فتنة اسمها "مؤتمر الزوايا"، ولم تكفها النكبات المتوالية حتى تضاف إليها نكبة اسمها "عبد الحي".

إن في رحلة عبد الحي هذه لآيات، منها أن الحكومة أحسّت بإعراض من رجال الزوايا، وانصراف عما تريده منهم بطرقها القديمة، فأرادت أن تؤيّد قوّة القهر بقوّة السحر، فكان عبد الحيّ الساحر العليم، وآية ذلك أنه زار كل واحد من مشايخ الطرق في داره، وأقام عنده الليالي والأيام، ونعتقد أنه تعِب في إقناع الجماعة ولمِّ شملهم، وقد سمعنا من عقلائهم عبارات التشاؤم بمقدمه في هذه الظروف، والتبرّم بتكاليفه في هذه السنوات العجاف، وإن ضيافة هذا الرجل وحدها لأزمة مالية مستقلّة، ولو كان للجماعة شيء من الشجاعة لولّوه الظهر، وصارحوه بالنهر، ولكن الشجاعة حظوظ، والصراحة أرزاق.

...

ويقال، في جواب ما شأنه، إنه الشأن كله، ونقسم بالله الذي خلق الحيَّ وعبد الحيّ، أنه لولاه لما خطر مؤتمر الزوايا على بال واحد منهم، حاشا حواريَّ عبد الحي بتلمسان، وهو


٢) اسم كتاب في الفقه لابن غازي جاء اسمه مطابقًا بسعة أعمال عبد الحي للمحنان. ونحن نريد المعنى الوفي في الكلمتين، فقد جاء الرجل ليكمل تقييد الجزائر وتونس بما ينقصهما من قيود مكره.
٣) أبو الحسن أنبه ملك في الدولة المرينية، بلغت فتوحاته إلى حدود ليبيا، وانتظم المغارب الثلاثة، وفي غزاته لتونس بنفسه كان المؤرّخ ابن خلدون قد ختم بها حياته العلمية وكان بدء اتصاله بالملوك والدول.

<<  <  ج: ص:  >  >>